خلف الكلمة... أسرار

في زمنٍ ليس ببعيد، كانت الكلمة هي نبض القلب الذي يتدفق بالمشاعر الجميلة التي ننقلها للآخرين.

تُقال بحضور، وتُكتب بحس، وتُرسل ومعها شيء من دفء صاحبها.

حين تقول“أحسنت”لا تصف إنجازًا فحسب، بل تمنح الآخر اعترافًا واهتمامًا، وتزرع في قلبه شعورًا بالطمأنينة.

أن تقول ”أنا فخور بك“ ليس ترفًا لغويًا، بل حاجة إنسانية،

أن تكتب ”مشتاقًا إليك“ أجمل ألف مرة من وجهٍ أصفر حزين.

الكلمة قادرة على أن تُغير يومًا كاملًا، وأن تُعيد للروح إشراقتها الأولى، لأنها لم تكن حروفًا فحسب، بل نبضًا يتشكل في هيئة صوت ومعنى.

لكن شيئًا ما تغيّر، خفت صوت الكلمة وصارت رمزًا.

قلبٌ أحمر، إبهامٌ مرفوع، وجه ضاحك، رموزٌ صغيرة تلمع على الشاشات، لكنها لا تضيء في الداخل، تُنجز المهمة بسرعة، لكنها لا تترك أثرًا.

هي جميلة في شكلها، لكنها بلا دفء، بلا روح، بلا ذاكرة.

فالكلمات كائناتٍ حية، كل حرفٍ فيها يتنفس، وكلّ معنى يخرج من بين أصابعنا دافئًا، صادقًا، متفردا.

أما اليوم، فقد صارت اللغة سريعة كوميض الهاتف تضيء لحظة وتخبو بلا أثر.

لم تعد تحمل نبرة الصوت، ولا رعشة الشعور، ولا ارتباك الفرح الحقيقي.

الرمز لا يعرف التردد الجميل في قول كلمات الحب، ولا ارتباك البدايات، ولا سكون اللحظة التي تسبق البوح.

هو مجرّد صورة، مكتملة أكثر من اللازم، جاهزة أكثر مما ينبغي، ولهذا تبدو باردة حتى وهي تبتسم.

بين الكلمات والرموز مسافات من الصدق والنية، في الأولى، نية تُكتب بحضور، وفي الثانية ردّ فعلٍ سريع بلا تفكير.

صرنا نضغط على الرموز كما نضغط على الأزرار، بعادةٍ لا بشعور، فتسارعت رسائلنا حتى صارت بلا روح، فقدنا ”لغة التفصيل“ تلك اللغة التي كانت تعبر عن الفرح بخفة، وعن الحزن برقة، وعن الفخر بصدق.

فالكلمة التي تبني الجسور، استبدلتها السرعة بإيماءاتٍ صامتة لا تتجاوز حدود الشاشة.

لم نعد نكتب كما كنا، لأننا لم نعد نشعر كما كنا، صار التعبير مجرد رد فعل، مشاركة غير حقيقية، صرنا نخشى الإطالة، نخاف الإفصاح، نختبئ خلف الرموز الجاهزة.

فاللغة التي لا تُقال تموت، مع الأيام، والشعور الذي لا يُعبّر عنه يبهت ويضيع في صمت الإشعارات.

ربما أكثر ما يؤلم في هذا التحول أن النية تلاشت،

فالكلمة تُكتب بقصدٍ ووعي، أما الرمز فيرسل بلا تفكير.

هكذا، شيئًا فشيئًا، تراجعت حرارة التواصل، وغابت الحروف التي كانت تحملنا إلى الآخر.

نحن لا نرفض الرموز فهي لغة العصر فليس هناك مهرب منها، لكن الخطر أن نستبدل بها الكلمة تمامًا.

فالكلمة قادرة على أن تحتضن، أن تواسي، أن تُعيد الدفء إلى العلاقات.

حين نمنح الكلمات وقتها، نمنح أنفسنا فرصة لنشعر حقًا.

وحين نعود إلى بطء الحروف وجمالها، نعود إلى جوهرنا الإنساني.

لدا نحن نحتاج في زحمة السرعة والاختصار، أن نبطئ قليلًا، أن نمنح الكلمة فرصة لتقول ما لا تستطيع الرموز قوله، لأن الكلمة، مهما صغرت، تظل أعمق من أي إشارة، وأقرب إلى القلب من أي شاشة.

فالكلمة حين تخرج من القلب تبقى أثرًا، أما الرمز مهما تلألأ فيذوب مع الضوء الأخير للشاشة.