زاوية ظلّ في عالم مزدحم

في عالمٍ تتزاحم فيه الوجوه، وتتسارع فيه اللحظات، وتضيق فيه المساحات رغم اتساع الأرض، يُصبح الإنسان غريبًا وسط الزحام، مثقلاً بما لا يُقال، متظاهرًا بما لا يُشبهه، يلبس ثوب القوة ليُخفي تصدّعًا داخليًا لا يراه سواه.

تتراكم عليه الواجبات، وتتنازع قلبه الضغوط من كل جانب: مسؤوليات تتكاثر، أحلام تتضاءل، قلقٌ مقيم لا يُفارق، وسؤال خافت يتردد في أعماقه، أين المفر؟.

وسط هذا كله، لا يكون الخلاص دائمًا في تغيير الواقع أو الهروب منه، بل في وجود زاوية صغيرة، دافئة، يجد فيها سكينة مؤقتة، وتوازنه المفقود، زاوية لا تحتاج إلى سفر بعيد، بل إلى قلوب قريبة.

إنها تلك الزاوية التي يلتقي فيها بأناس لا يُرهقونه بالتفسير، ولا يُثقلونه بالتوقّعات، بل يحتضنونه بما يكفي ليعود كما كان: بسيطًا، نقيًا، مرتاحًا.

في صحبة صادقة، تنشأ هذه الزاوية، صحبة لا تُبنى على المصالح، ولا تتكئ على المواقف العارضة، بل تنمو في تربة الود العميق، والنية الطيبة، والإحساس المُشترك.

فيها يُتاح للإنسان أن يتنفس كما يشاء، أن يصمت دون حرج، أن يشكو دون أن يُلام، أن يضع عن كاهله أثقال الحياة، ولو إلى حين.

كم منا يمرّ بأيام لا يحتاج فيها إلى نصيحة، ولا إلى حُلول، بل فقط إلى من يستمع، إلى من يقول له أنا معك، دون شرط، دون حساب، دون استعجال.

وهذه هي عظمة العلاقات النقيّة، أنها تترك فيك أثرًا لا يُنسى، لا لأن أصحابها فعلوا شيئًا خارقًا، بل لأنهم كانوا هناك، في الوقت الذي احتجت فيه إلى من يكون.

إنّ أجمل ما في الحياة ليس وفرة المال، ولا بلوغ المناصب، ولا التصفيق من الحشود، بل أن تجد في زحمة هذا العالم شخصًا أو أكثر، تشعر معهم أنك لست مضطرًا لشيء.

أن تكون نفسك تمامًا، دون خوف، دون تصنّع، دون أن تُخفي ضعفك أو تعبك أو قلقك.

في تلك الزاوية الهادئة، مع أولئك الذين يُشبِهونك، تُشفى النفس دون علاج، وتعود الحياة قابلةً للعيش، ويغدو الغد، مهما بدا مجهولًا، أخف وطأة.

فلنحرص على أن نكون لتلك الزاوية أهلًا، وعلى أن نحفظ صحبة المشاعر الصادقة كما نحفظ أنفسنا.

فهي ملاذٌ لا يُشترى، وسكينة لا تُصطنع، ونعمة لا يشعر بها إلا من افتقدها طويلًا.

اختم مقالي بكلمة واقعية صادقة من إحدى الزميلات، أحلى مافي العمل وجودي مع زميلاتي وسوالفي وياهم. تريح النفس.

في النهاية رحابة النفوس تفوق رحابة المكان.