ناعي الحسين ... الخطيب البصارى •

 

 

في غير موسم من مواسم حصاد " انتصار الدم على السيف " لا زلت تنثر لنا من نمير أحاديث اليوم المشهود، عظمة الحق، وشموخ الكبرياء، وتجلي العنفوان في ساحة قيم الموقف القويم عندما يعز الخطاب.

واحسيناه ... واحسيناه ... واحسيناه  مفردة اشتقت عناوين حروفها من كل مقامات الجمال والجلال، فغدت بفعل هذا الحضور الجامع، سورة مستحكمة على ما سواها من قواميس الفداء، واشتقاقات البذل والتضحية.

ولما كانت كذلك ـ  وزيادة ـ  لم تجد غير مآقي العيون مستودعاً لمعناها المكنون، ولطفها المتجدد. عبرة تنهمر، ولوعة بعد أخرى ترفع لواء للمعاني السيالة بالخصب والنماء ... دون أن يعتريها ضعف، أو يأخذ منها معول انهزام، كل ذلك صائر ولا تزال تعبدّ الطريق للفتح المبين، ومحافل أهل الذكر من فوق سنام المنابر تردد ﴿ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا الإسراء الآية 78.. هكذا الدمع في سِفر كربلاء يقشع غياهب الظلام فتبصر النفس مواضعها من تراكمات الواقع، وحيثيات الأخذ بزمام المبادرة.

دمعة تعيد الصياغة للإنسان من جديد، فتكتبه في سجل الخالدين من جديد أيضا. تُسقي الشمس فتطفأ ظمأ الفؤاد، وتبذر الكرامة فيبزغ منها فجر الاستخلاف. فتصير عندها الأجساد الخاوية على عروشها بنفخة من روح كربلاء خلقاً آخر ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ المؤمنون : 14 

فمهلاً أيها المترجل عن صهوة أعواد المنابر، والصاعد نحو محط الآمال ومقر السكينة، وسفينة النجاة، وتراتيل الملائكة المقربين. فنحن من صغار فراخك الذين حطوا برحالهم عند عتبات قدس منبرك، فباتوا في ظل البركات يرفلون، وبفيض من وهج المراثي يتلمسون الطريق نحو لطف المشاعر، ونبل الإحساس، بحثاً عن دمعة شوق، وصفاء روح.  قد امتزجت فيما بينهم وشيجة الولاء، وتآزرت على مسمعهم رسل من عبير الكلمات الدافئة. غير أن قواريرنا لا تزال شاغرة لم تستوفِ بعد نصيبها من مزن أداء حق الواجب، بواجب الحق المبين، منتظرة إياك كي تحدو بقافلة المسير، كالطرماح بن عدي، وأنت تنسج من ملحمة الطف المباركة تسبيحة الصدق في بيان العاطفة، وتزرع في أديم الروح مشاتل من السنبل القرآني، بضاعة مزجاة، وآيٍ من ذكر حكيم. تنتقل من مشهد بطولي إلى آخر مفعم بأريج البصيرة النافذة، ترسم القصيد فيدور معك حيثما درتَ، بصوت شجي، وحس مرهف، وأداء متألق، وقلب مفعم باكتمال الصورة، فكأنا ونحن عند مراقي منبرك والحسين في محضر الجمع، أو مع الركع السجود في المشهد المنيف، لا يفصلنا زمان، ولا يعوقنا عن أنس شرف المحضر منأى المكان.

عرفناك بالحسين وكفى. صرت صوتاً ملائكيا " ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير ". كل ذلك بغرفة من بحر عشق الحسين.  

بربك قل لي: أي حجر طيب، واقتناص توفيق، هذا الذي هداك لهذا المسلك الخير، فصرت مشمولاً بما أنت فيه من النعيم المقيم؟  فحيث ذكرك الذاكرون، وتناوب في تبيان رسم خطاك المتكلمون، بزغ الحسين ترعاك يمناه، وتحوطك عنايته، فإليه دون غيره تنتسب في المطالع والمشارق، وإلى مقرّ خيامه سُكنى روحك المطمئنة، فما أسمى هذه المرتبة وأجل هذه الخصيصة عندما ينادي المنادي أرهفوا السمع جاء ناعي الحسين ... الخطيب البصارى.

 

• الخطيب الحسيني الشيخ عبدالرسول بن كاظم بن محمد البصارى، ولد بجزيرة تاروت بالقطيف سنة 1364هـ، تتلمذ على يد فضلاء الحوزة في القطيف والنجف الآشرف، مارس الخطابة الحسينية وعمره ( أثنا عشر سنة )، حاز من النصيب أوفاه في إدارة دفة حسن التخلص للمصيبة ساعده في ذلك إتقانه وتمكنه من أداء الأطوار الحسينية بشكل مبدع قل نظيره في القطيف، وبذلك فهو صاحب مدرسة ورائد الطور العراقي في القطيف. انتقل للرفيق الأعلى مساء يوم الجمعة، 4/ 3 / 1433هـ، 27ـ ينايرــ 2012، عن عمر ناهز 69 عاماً.ووري الثرى مساء السبت بمقبرة تاروت.