الشيخ المرهون أبٌ روحيٌ للقطيف بجدارة

 

 

لايمكن في حال من الأحوال اعتبار سجايا البشر ومواقفهم العفوية ، مواقف عابرة لا تعبر عن مضمون ومغزى أرادوا إيصاله للآخرين بطريقتهم وأسلوبهم الخاص ، خاصة إذا صدرت من شخصيات تركت بصماتها الواضحة على جدران حاضرة القطيف وبلداتها ، ومنها سجايا وعطاءات العالم الرباني العلامة الشيخ علي المرهون قدس الله نفسه الطيبة ، والتي لا يمكنني حصرها في هذه العجالة القصيرة بقدر الإشارة إليها .  

ثقافة الترشيد المادي في مجلس فاتحة

لم أكن يوماً من الأيام قريباً من الشيخ علي المرهون بحكم فارق المكان والزمان الذي عاشه وعشته ، لكن سيرته العطرة التي يعرفها القاصي والداني هي ما استوقفتني في كثير من المواقف التي وقفت عليها بنفسي ، أذكر منذ قرابة العشرين سنة لمحت الشيخ المرهون خارجاً من تقديم العزاء في إحدى مناسبات الفواتح في بلدتنا فجذبتني هيبته وتواضعه ، فصرت أمشي خلفه دون اختيار ، فجأة توقف الشيخ أمام أحد الشباب الذين يقدمون العصائر أمام مجلس العزاء ، فخاطبه متبسماً : يا ولدي نحن في مجلس فاتحة أم مناسبة زواج ؟ فقال الشاب : بل في مجلس فاتحة ، فرد الشيخ قائلاً : إذاً لم تقدموا هذه العصائر ؟ اكتفوا بتقديم الشاي والقهوة ، تفاجئ ذلك الشاب من كلام الشيخ ولم يرد عليه أي جواب ، عندها أدركت أن لكلام الشيخ مغزى ودلالة أراد إيصالها  من خلال نصيحته الأبوية ، قد غابت عن ذهن هذا الشاب أو غيره ،  لكن وبعد دقائق من ذهاب الشيخ  وقفت مع نفسي هنيئة وقلت : ماذا يقصد هذا الشيخ من تصرفه وتلك النصيحة ؟ كأنه يريد أن يقول : لكل مناسبة مظاهر تعكس صورتها وتجلياتها، فجلس العزاء ليس مناسبة فرح لكي يقدم فيها ما لذ وطاب ، لأنه أدرك بأهمية الترشيد المادي في هذه المناسبات وغيرها ، وسعيه الحثيث لمحاربة ترسيخ ثقافة الكماليات الزائفة كضرورة حياتية ضمن منظور اجتماعي ، لأن الإنفاق المادي على كثير من الكماليات تثقل كاهل كثير من الأُسر ، وتزعزع ميزانيتها المادية، خاصة إذا ما أخذنا في عين الاعتبار التفاوت المادي بين شرائح المجتمع  ، لذلك سعى لتطبيع الترشيد المادي على نفسه وعلى مجتمعه في كل مكان يحل فيه إيماناً منه بأهمية نشر هذه الثقافة بين الناس ، وكأنه ينظر بعين مستقبلية فيما ستؤول إليه حالة البذخ المادي من أجل اقتناء وتوفير الكماليات الحياتية التي تنفق بلا معنى في مجتمعاتنا .  

شيخ يقبل النصيحة ويُطبقها

رقى الشيخ علي المرهون المنبر الحسيني في بلدة الأوجام لأكثر من ثلاثين سنة ، أذكر في إحدى ليالي محرم الحرام وتحديداً في ليلة الثامن من المحرم ، وقبل أن يرتق الشيخ المنبر بادره أحد الشباب المتدينين بالسلام وقال له : إن زواج القاسم بن الحسن عليهما السلام ليس وارد في الروايات المعتبرة لدى أهل البيت عليهم السلام ، ثم قدم له ورقة تحتوي على فتوى من أحد المراجع يُجيب على سؤال موجه حول عدم صحة رواية زواج القاسم بن الحسن عليهما السلام في كربلاء ، فما كان من الشيخ الجليل إلا أن تبسم في وجه الشاب وأخذ الورقة منه وشكره على ذلك ، ثم صعد المنبر ، وما إن وصل إلى رواية زواج القاسم بن الحسن عليهما السلام حتى استشهد بالفتوى وبرأي ذلك الشاب  وقال : سنتعرض لزواج القاسم من باب البركة !! .

عندها أدركت أن هذا الشيخ الجليل يملك حنكة ووعياً لا يقل عن مفهوم وثقافة المثقف والمتدين الحالي ، لكن يتمتع بأسلوبه الخاص في تطبيقها ، فبالرغم أن هذا الحادثة حدثت في حقبة زمنية لا يسمح فيها بتوجيه أي نقد لمفهوم ديني سائد لعادات دأب الناس على إحياءها طيلة هذه العقود ووصلت إلى حد المسلمات ، إلا أن الشيخ المرهون سمح لهذا الشباب بالتعبير عن رأيه ، ولم يكتف بذلك بل أشاد بنقد الشاب على المنبر!! .

أنه أسلوب راقي وواعي في معالجة الموقف عبر موازنة بين نقد الشاب وبين العرف السائد في المجتمع حول إحياء هذه المناسبة ، وأوصل الشيخ علي المرهون رسالة لعموم المجتمع بضرورة التشجيع والترويج لثقافة الانتقاد ، فالاختلاف عند الشيخ المرهون لا يفسد للود قضية ، فكانت هذه القاعدة حاضرةً وجليةً في حياة الشيخ المرهون حيث استقطب لمجلسه جميع شرائح العلماء بمختلف مرجعياتهم وتوجهاتهم الفكرية ، وهو مفهوم وثقافة راقية لازالت طبقة المثقفين والمنفتحين تسع وتصر على ترسيخها بين شرائح المجتمع خاصة والبشر عامة ، لكن الشيخ المرهون طبقها منذ عقود بأسلوب العالم المثقف.

كذلك احتوى هذا الموقف على رسالة مهمة لؤلئك العلماء والفضلاء بضرورة تقبل الرأي الآخر أياً كان مصدره ونوعيته وصوابه ، وقد أشار إلى هذا المعنى سماحة العلامة السيد منير الخباز حفظه الله في بيان التعزية للشيخ المرهون بقوله : فجدير بأهل العلم والمنبر والقلم الاهتداء بسيرته المشرقة ونهجه المعطاء الذي كان أسوة حسنة للمؤمنين ومناراً للمتقين ومعلماً للصادقين.

الشيخ المرهون أبٌ روحيٌ للقطيف بجدارة 

لاشك أن لكل شخصية مقومات وميزات تحتل بقدرها مكانتها في المجتمع ، لذا لم يكن من السهل على أي شخصية أن تحتل وتنعت بالقيادة الأبوية والروحية للمجتمع إلا إذا اجتمعت فيها المقومات الأخلاقية والدينية والتربوية التي طبقها على نفسه قبل غيره لكي يستطيع احتضان فئات المجتمع المختلفة ويؤثر فيها .

فتمتع الشيخ علي المرهون رحمه الله بمقومات شخصية (كاريزمية) متميزة منها : سحر الشخصية والقدرة على لفت الانتباه والتأثير الساحر في الآخرين وتوجيه سلوكياتهم ومواقفهم إلى حد قدرته على إعطاء رسالة صامتة من خلال حضوره دون أن يفتح فمه ، وهي سمة نادرة جداً ليس من السهل على أي شخص امتلاكها . 

وهذه المقومات الكاريزمية هي ما أهلت الشيخ علي المرهون لاعتلاء قمة الهرم القطيفي بجدارة واستحقاق ، وهذا ما يؤكده كثير من شرائح الطيف القطيفي ، وهذا ما شهد به أخانا العزيز العلامة الشيخ فيصل العوامي حفظه الله، في بيان النعي للشيخ علي المرهون بقوله : ننعى من استحقَّ بجدارةٍ أن يكون أباً روحيّاً جامعاً لسائر الطيف الإيماني في منطقة القطيف سماحة العلامة المبجَّل الشيخ علي بن الشيخ منصور المرهون (طيَّب الله ثراه) .

ولعل أوضح صورة واقعية تجلت في رسم المنزلة الروحية التي تبوئها الشيخ الجليل علي المرهون طيب الله نفسه، هي في اللوحة الفنية التي رُسمت في سماء القطيف عصر الخميس الثامن والعشرين من محرم الحرام لعام ألف وثلاثمائة وواحد وثلاثون للهجرة ، وزينتها أطياف الآلاف التي أحاطت بنعشه في تشييع مهيب لجنازة لم تشهد القطيف مثلها منذ عقود من الزمن .