مصر بين الثور والثورة

لا أريد أن اسرق عبارة "الثور والثورة"، فهي من متلازمات الشاعر القدير أحمد مطر، وبالتأكيد يتذكرها أبناء جيلي وبعض من أبناء الجيل الحاضر حيث كان بعضهم في بداية التسعينات يكرر مقطع من تلك القصيدة " الثور فر..الثور فر" وعنوان القصيدة "الثور والحضيرة". لكنني أستعيرها لتناسبها مع مجريات الأحداث المتناقلة بين ثورة الميادين المصرية والثور القاطن في قصر رئيس الجمهورية "السابق" حسني مبارك.
   مساران يتحكمان في الأحداث المصرية. مسار يريده المتظاهرون ثورة، ومسار يريده النظام دولة. مسار مصّر على التجديد والتغيير والإصلاح، ومسار ملّح على التمسك بروح النظم التقليدية الرتيبة. مسار يفور فيه الشباب بدماء تنبض بالحرية والانعتاق من قيود التخلف والانهزامية، ومسار يركد فيه العجائز بمياه آسنة بالبيروقراطية وحب التملك والتشبث بالسلطة والحكم.
    مسار الثورة يتطور بتكتيكات يومية جديدة لانتفاضة الشعب المصري. مسار الدولة يتطور كل يوم أيضاً بخطوات التفافية على الثوار والثورة. وما بين المسارين تتأرجح الخطوط المسيسة، القديمة والحديثة، بين تبني صوت الثورة أو تبني فحولة الثور. وما بين المسارين تتأرجح أيضاّ معارضات قديمة حديثة بين ركوب موجة الثورة أو تقوية جسد الثور ليصيبها بعض من فحولته المعروفة بالفساد والسرقة تحت غطاء قانون الطوارئ.
   الجديد في مسار الثورة اليوم، وهو الخامس عشر من عمرها الفتي: رفع لافتات باللغة الانجليزية تحمل الشعارات ذاتها المحمولة في الأيام الماضية. انتشار السماعات والشاشات في الميادين. تشكل ووجود لجان معنية بكل ما يحتاجه المتظاهرون في الميدان كالأطعمة والآشربة والدواء والإسعافات الأولية، ولجان معنية بحراسة المعتصمين والنائمين ليلاً في الميادين، لجان إعلامية... كل ذلك وغيره مما نتوقع حدوثه يعمل على تحويل الحالة في الشارع المصري من انتفاضة إلى ثورة من خلال تحقيق أهم وأول شروط من شروط الثورة وهو استمرارها حتى تحقيق أهدافها.
   الجديد في مسار الدولة اليوم: وعود من رئيسها بعدم ملاحقة المتظاهرين بعد استقراره واستقرار البلاد. محولة خلق فزاعة سياسية من حركة الأخوان المسلمين لدى الشارع المصري ولدى الدول الغربية. بث دعايات تهيئ لضرب الثورة بأن ما يجري مؤامرة مشتركة بين دول خارجية وعناصر من ساسة الداخل والأحزاب. محاولة تعميم فكرة مفادها "الاستقرار أهم من الفوضى" من خلال أسماء دينية وفنية وثقافية. إظهار تمسكن الدولة ورجالاتها من خلال تقديم التنازلات تلو التنازلات لتلميع صورة الدولة ورجالها. خلط الأوراق السياسية والأمنية لتشويه الثورة من خلال ضربة أمنية هنا وضربة نفطية هناك وضربات جنائية متفرقة. كل ذلك تقوم به الدولة على قاعدة السباق مع الزمن. الدولة تراهن على إطالة عمرها من خلال إضعاف عزيمة الثوار وإنهاك نشاطات الثورة مع مرور الوقت.
   يقول الشاعر أحمد مطر في قصيدته:
الثور فر من حضيرة البقر، الثور فر،
فثارت العجول في الحضيرة،
تبكي فرار قائد المسيرة،
وشكلت على الأثر،
محكمة ومؤتمر،
فقائل قال : قضاء وقدر،
وقائل : لقد كفر،
وقائل : إلى سقر،
وبعضهم قال امنحوه فرصة أخيرة،
لعله يعود للحضيرة؛
وفي ختام المؤتمر،
تقاسموا مربطه، وقسموا شعيره،
وبعد عام وقعت حادثة مثيرة،
.لم يرجع الثور، ولكن ذهبت وراءه الحضيرة.
   الفرق بين الثور والثورة يكمن في التاء المربوطة باستمرار الثورة. الاستمرار لا يعني توقف الحياة المعيشية، بل يعني التعايش بين ممارسة الحياة الطبيعية وتطوير أدوات الثورة لتصمد أمام محاولات الدولة وسعيها للبقاء وكسر رموز وقوة الثورة. وها نحن نجد الشعب المصري يأخذ بالتعايش التدريجي بين مواصلة الثورة والمشي في ترتيبات إيقاعات الحياة اليومية. الأيام القادمة هي أيام حاسمة للحكم على الأحداث في مصر. هل يتوقف الشارع فيسجل التاريخ بأن انتفاضة حدثت وغيرت جزء من صورة مصر الحاضرة؟ أم إن الانتفاضة تحولت إلى ثورة لتغير جل مستقبل مصر والمصريين؟ هل تُسرق الثورة وينجح الثور في البقاء في الحضيرة؟ أم ننعم بالتغني ونقول: "الثور فر...الثور فر"؟ ننظر وتنظرون!
كاتب وباحث