يُقال: الصراحة راحة

قال الله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.

يرى علماء النفس أن الصراحة لا تعني قول كل ما نعرف، بل قول ما ينبغي قوله بالطريقة الصحيحة. ومن هنا، تُعدّ الصراحة قيمة إنسانية وأخلاقية واجتماعية سامية، وضرورة نفسية تعزّز الثقة، بل تُعد عنصرًا أساسيًا للنجاح، ينطلق منها الإنسان طلبًا للراحة النفسية والحياة السعيدة.

فالشخصية الصريحة لا تحكمها اندفاعات نفسية سلبية ولا فظاظة في الطرح، بل تتسم بصدق مهذّب ووعي ناضج، يتحمل مسؤولية الكلمة وما تحمله من معنى، ويعبّر عنها بصفاء وشجاعة وشفافية. إذ إن الغاية الأساسية من الصراحة هي إزالة الشوائب والغموض، وكشف الحقائق، حتى يسلم كل طرف من الوقوع في الأهواء الشخصية والانفعالات العاطفية والمراوغة، التي تخلق بيئة فاسدة تؤدي إلى الاحتراق العاطفي والروحي، ومن ثمّ انعدام الثقة.

وللصراحة مفهوم علمي يتمثل في التعبير عن الأفكار والمشاعر والآراء بصدق ووضوح، دون تحريف أو تضليل للحقائق، مع مراعاة السياق واللباقة في التعامل مع الآخرين. كما أن هناك فرقًا بين الصراحة والشفافية، رغم التقارب الكبير بين المفهومين؛ فالشفافية، كمفهوم علمي، تعني إتاحة المعلومات والقرارات والسلوكيات بصورة واضحة، قابلة للفهم، وخالية من الغموض أو الإخفاء المتعمد.

وفي علم النفس الاجتماعي، تُعد الصراحة والشفافية عنصرين مهمين من مهارات التواصل الإيجابي، وتسهمان في تحسين الأداء والابتعاد عن العدوانية والسلوك السلبي. إذ إن كبت المشاعر يؤدي إلى التوتر والقلق واضطرابات نفسية وجسدية، بينما يُسهم التعبير الصريح المتزن في تقليل الضغط النفسي والاكتئاب والاحتراق العاطفي، كما يساعد على تنظيم الانفعالات ويجنّب الفرد الانفجار النفسي والعاطفي.

وتُسهم الصراحة والشفافية في بناء الثقة، وتقللان من سوء الفهم والتأويلات السلبية، وتعززان الإحساس بالأمان العاطفي، وتخلقان بيئة صحية تقل فيها مظاهر النفاق الاجتماعي. كما تشجعان على الحوار وتبادل الأفكار والآراء، شريطة أن تكونا مقترنتين بالحكمة في التوقيت، واللطف في الأسلوب، وهو ما دعا إليه ربنا سبحانه وتعالى بقوله:

﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ.

وقد أثبتت الأبحاث العلمية أن الصراحة والشفافية في العلاقات الزوجية والاجتماعية تسهمان في تحقيق الرضا والاستقرار لفترات أطول، مما يجعلهما ضرورة حياتية وقيمة سلوكية اجتماعية أساسية، بل مهارة اجتماعية ينبغي اكتسابها عبر التربية والتثقيف، لما لهما من دور محوري في نجاح العلاقات الإنسانية.

وهنا يبرز سؤال مهم:

لماذا يكره بعض الناس التعامل بالصراحة والشفافية، سواء على الصعيد الشخصي أو الاجتماعي أو العملي؟

وقبل الإجابة عن هذا السؤال، أستحضر تجربتي العملية الطويلة في عدد من الشركات، ولا سيما في القطاع المصرفي، حيث كانت هناك توصيات حازمة وإجراءات إدارية صارمة تكاد تهدد الموظف بالفصل إذا ابتعد عن الصراحة والشفافية في تعامله مع العملاء. ويعكس ذلك أهمية هذين المبدأين، لكونهما يمثلان المصداقية والثقة بالمؤسسة ومنتجاتها، واحترام العميل الذي منح ثقته الكاملة للمصرف وموظفيه، بوصفهم الواجهة الأساسية له.

وبالعودة إلى الإجابة عن السؤال المطروح، فإن من أبرز الأسباب الجوهرية لنفور البعض من الصراحة والشفافية هو الخوف. فبعض الأشخاص يخشون ردود الفعل الغاضبة أو غير المرضية، ويخافون من فقدان العلاقات أو توترها، مما قد يؤدي إلى صدامات وانعدام الثقة. كما أن بعضهم يربط قيمته الشخصية بنظرة الآخرين إليه لا بحقيقته الذاتية، فيلجأ إلى ارتداء أقنعة اجتماعية لا تعكس واقعه الحقيقي، وهي أقنعة سرعان ما تسقط، فتتعقد المشكلة ويصعب تجاوزها بسلام.

أما السبب الثاني فيكمن في التنشئة الخاطئة القائمة على المجاملات المفرطة، التي ترسّخ لدى الفرد قناعة بأن الصراحة نوع من قلة الذوق، وأن المبالغة في المجاملة تمثل ذكاءً اجتماعيًا. وينشأ هذا الخلط بين الصراحة والوقاحة نتيجة غياب القدوة التي تمارس الصراحة بمفهومها الصحيح. فالصراحة والشفافية لا تعنيان التجريح أو التقليل من شأن الآخر، بل التعبير الصادق والواضح دون مراوغة أو عدوانية أو تعالٍ.

أما السبب الثالث فيرتبط ب عوامل نفسية، حيث يفسّر بعض الناس الصراحة والشفافية على أنها نقد جارح أو هجوم شخصي، في حين أن ممارستهما تتطلب نضجًا انفعاليًا ووعيًا بالواقع، لأنهما أساس بناء إنسان سوي ومجتمع صحي.

وقد توجد أسباب أخرى تدفع بعض الناس إلى اتخاذ موقف سلبي أو عدائي من الصراحة والشفافية، فضلًا عن وجود نفوس سيئة تستغل سوء الفهم لهذين المفهومين، وتسعى لتشويههما بما يخدم مصالحها الشخصية، خاصة إذا وجدت بيئة قابلة لتلقي مثل هذه الأفكار. وهنا يجب الحذر من هؤلاء، لأنهم يتقنون التمثيل في العلاقات العامة بأقنعة متعددة.

وكلما تحققت الصراحة والشفافية في أي علاقة، كانت الراحة النفسية والروحية والذهنية والجسدية أقرب وأوضح، وكأنها ماثلة أمام الإنسان وبين يديه.

كاتب رأي، وموظف في القطاع المصرفي.