الإعلام بين رسالة الوعي وثقافة التفاهة
عندما قامت الهيئة العامة لتنظيم الإعلام بإصدار مجموعة من التعليمات الإعلامية الجديدة التي تستهدف المشاهير وصنّاع المحتوى غير الملائم على المنصات الرقمية، جاء ذلك في إطار حرصها على حماية القيم والمبادئ التي تشكل أساس استقرار المجتمع. يهدف هذا التوجه إلى بناء جيل ومجتمع يمتلكان حصانة إعلامية ترتكز على محتوى راقٍ وهادف، مع التصدي لأي مواد تهدد النسيج الاجتماعي. كما شمل القرار حجب أي محتوى يمكن أن يتسبب في الإضرار بالمجتمع وفرض عقوبات صارمة على من يخالف هذه التعليمات ويتداول تلك المواد عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وتركز الهيئة جهودها على حماية الهوية الثقافية والمبادئ الأساسية للمجتمع من أي محتوى إعلامي هابط قد يسعى بطرق مختلفة إلى التأثير السلبي أو تشويه هذه المبادئ. بشكل سلبي ومخفي. وهذه الخطوة تهدف إلى ضمان أن يكون الفضاء الإعلامي بيئة داعمة للتطور الإيجابي، بدلاً من أن يكون أداة تهدد الأسس الأخلاقية والثقافية للمجتمع. بالإضافة إلى ذلك تسعى إلى منع أي استغلال للأطفال أو والعمالة بأساليب غير أخلاقية في المحتوى لزيادة المعجبين.
ووضع ضوابط محددة للأزياء والمظهر بما يحافظ على شخصية الفرد وكرامته، مع الالتزام بالذوق العام والأخلاق، بهدف التصدي لظاهرة الظهور المتكرر بملابس وسلوكيات لا تتناسب مطلقًا مع العمر أو الوضع الاجتماعي. مثل هذه التصرفات تعكس سلوكًا بعيدًا عن المسؤولية، يستقطب الانتباه باستغلال الشهرة الفنية أو الاجتماعية.
كما أوضحت الهيئة الإعلامية إلى أن التعرض السلبي للمحتوى المنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، سواء كان في شكل برامج، أحاديث، منشورات، تعليقات، مداخلات، أغنيات مبتذلة أو مقاطع فيديو تمثيلية هابطة، قد يترك آثاراً نفسية وضارة على الفرد واستقامته. وأكدت أن هذا الأمر قد يؤثر على مستوى وعي الشخص ومدى استعداده للاندماج الإيجابي في المجتمع، كما أنه يمكن أن يضعف الالتزام بالقيم الأخلاقية، واحترام المجتمع ورموزه، والحفاظ على وقاره بما يدعم قدرة الفرد والمجتمع على التميز والتقدم.
لم يعد يخفى على أحد أن التفاهة أصبحت ظاهرة منتشرة لا يمكن إنكارها في ظل هيمنة مواقع التواصل الاجتماعي على المشهد الإعلامي وتأثيرها الكبير على المجتمع وأفراده. ما نشهده اليوم على هذه المنصات يعكس حالة من الانحدار والتراجع في القيم والمكتسبات الأخلاقية، الفنية، والثقافية. هذا التدهور ألحق الضرر بكل ما كان يمثل الرقي والتأثير في حياتنا، سواء الإبداعات الإنسانية، الفكرية، القانونية، الأخلاقية أو الفنية. المشهد العام بات مزدحماً بانحدار القيم الإنسانية النبيلة لتحل محلها مظاهر الرداءة والانحدار في كل المجالات، إلى درجة أصبح معها التفرقة بين المصلحة الشخصية ونقيضها مسألة بالغة الصعوبة بفعل انتشار السطحية والتفاهة التي سيطرت على الأفكار والأذواق المعاصرة. من هنا، بات من الضروري أن تتدخل المؤسسات الإعلامية لوضع حد لهذا الانهيار وإرساء ضوابط واضحة تضمن الحفاظ على سلامة الفرد والمجتمع.
ومن المؤسف أن منصات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تقدم مساحة واسعة للأشخاص الذين يروجون محتوى سطحياً يفتقر إلى القيمة، مما يجذب ملايين المتابعين. هؤلاء المؤثرون لا يكتفون بنشر التفاهة فقط، بل تحولوا إلى أدوات تسويقية للشركات التي تستفيد من شهرتهم للترويج لمنتجاتها، مما يزيد من انتشارهم وأرباحهم. وفي المقابل، تراجعت مكانة المثقفين الحقيقيين الذين يسعون للإسهام في تطور المجتمع، حيث يتم تهميشهم لصالح شخصيات سطحية تفتقر إلى المعرفة والعمق.
هذا يؤثر أيضاً على قوة شخصية الفرد، مما يؤدي إلى إضعافها، حيث يصبح الفرد أكثر سطحية وغير قادر على اتخاذ القرارات، ويتسم سلوكه بالانحراف والابتعاد عن الأطر الجماعية للمجتمع. هذا يتناقض مع القيم التي تركز على المستقبل وتعزيز التميز والإبداع الفردي ضمن نطاق الذوق العام.
يشير بعض المحللين الإعلاميين إلى أن التفاهة تحولت إلى منتج مرغوب وثقافة مبررة بل وأصبحت وضعا سائدا في عصرنا الحالي، عصر هيمنة الإعلام الرقمي. يبدو وكأننا نعيش توجها شبه عالمي نحو التفاهة في مختلف المجالات تقريبًا. فلم يعد للعلم أو الأخلاق أو الإعلام أو الثقافة وغيرها من الركائز الإنسانية الأساسية التي تساهم في بناء المجتمعات والحضارات، أو تشكيل الوعي الفردي والجماعي، المكانة التي اعتدنا أن نجدها في عملية صناعة الإنسان.
ظاهرة السعي نحو البروز أو الشهرة الاجتماعية:
تشير ظاهرة السعي نحو البروز أو الشهرة الاجتماعية عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى تحول ملحوظ دفع البعض إلى تبني سلوكيات سطحية وغير ذات قيمة، بل وأحيانًا غير مبررة، بهدف تحقيق هذا الهدف. وفي حال كان الفرد يميل بطبيعته إلى حب الظهور والسيطرة على المشهد، فإن المسار أصبح واضحًا، فتح حساب على إحدى المنصات الشهيرة مثل تيك توك أو فيسبوك أو غيرهما، ومن ثم تقديم محتوى لا يحمل عمقًا أو فائدة. تتجلى هذه الممارسات في نشر فيديوهات مبتذلة وصور ومقاطع خالية من القيمة، تتسم بالاستهتار واللامبالاة وحركات مبالغ فيها لا تخضع لأي منطق، مصحوبة بضحك هستيري واستهزاء بالآخرين. يترافق ذلك مع تجاوز حدود الذوق العام في محاولة لجذب أكبر عدد ممكن من المتابعين وتكوين قاعدة معجبين تعتمد على الطرح الساخر والهزلي.
بات واضحاً أننا نشهد صعود فئة من الأفراد الذين يُحسبون على الوسطين الاجتماعي والفني، والذين يمكن وصفهم بأنهم يفتقرون إلى العمق والرؤية. هذه الفئة استحوذت على المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، مركزين جهودهم على نشر محتوى سطحي وخالٍ من القيمة أو الهدف الحقيقي. يتمحور نشاطهم حول توثيق أنفسهم بشكل مبالغ فيه، والأكثر إثارة للدهشة هو ظهورهم المتكرر بمظهر وسلوكيات لا تتناسب مع أعمارهم أو مكانتهم الفنية والاجتماعية. يبدو كما لو أنهم يتخلون عن الخبرة والرصانة التي اكتسبوها عبر الزمن لصالح صورة مصطنعة تخلو من الأصالة، تهدف فقط إلى جذب انتباه الجمهور وإرضاء بعض رغبات التصفيق والإعجاب. ورغم هذا التناقض البيّن، يسعون لتقديم أنفسهم كفنانين حقيقيين وناشطين اجتماعيين وصنّاع لحياة مثالية زائفة. هذه الحياة المعلنة تجد رواجاً لدى بعض المتابعين، الذين يرون في ذلك وهماً ممتداً قد يُساعدهم على التهرب من واقعهم الصعب وإحباطاتهم الاجتماعي.
رسالة إلى كل من يسعى لإثراء وعيه الفني والارتقاء بذوقه الإنساني الراقي:
إن كنت تبحث عن فهم أعمق وذوقٍ أكثر سموًا، فلا يمكن إنكار أن ما نراه اليوم من انتشار لمن أُطلق عليهم ”الأقزام التافهون“ على منصاتنا الرقمية يعكس تراجعًا عامًا في مستوى الذوق والانحدار الثقافي. على الفرد الواعي أن يحسن استثمار وقته وعقله، بدلاً من الانشغال بمتابعة التفاهات والخوض في الأمور السطحية التي لا تعود بالنفع، وأن يمتنع عن المساهمة في تعزيز هذا التدهور عبر إعطاء الأهمية لمن لا يستحقها. إنه لمن المؤسف أن نجد أن البعض يُحوّل شخصيات فارغة وغير ذات قيمة إلى قدوة لأطفالنا وشبابنا، مما قد يسهم في تشكيل هويتهم على أسس وضيعة.
علينا أن نسعى جاهدين لتقديم نماذج أكثر رقيًا لشبابنا، نماذج تحمل قيم السلوك الرفيع والإنسانية السامية. يملك كل فرد دورًا في مواجهة هذه الظاهرة، من خلال وعيه بما يستهلكه من محتوى. يمكن لأي شخص أن يبتعد عن الانجراف وراء المواد السطحية والتفاهة، والانتقال لما يثري الفكر ويعزز الثقافة ويغذي المعرفة. هذا الخيار الفردي هو البداية الحقيقية لنهضة ثقافية ترتقي بالمجتمع نحو مستويات أعلى من الوعي.
كلمة أخيرة:
يا من تصنع محتواك بجهدك، اجعل صفحتك منارة للنور وتذكّر أن الكلمة أمانة، وأن ضغطة زر قد ترفعك في الدنيا لكنها قد تحطّ من قيمتك في الآخرة. هذه دعوة موجهة للجميع لتوعيتهم بضرورة محاربة التفاهة بجميع أشكالها، والعمل على مقاطعتها تمامًا دون منح أصحابها أي قيمة أو اهتمام، خاصة لأن وجودهم يشكل خطراً حقيقياً على الأجيال الصاعدة. فلنقضِ على ظاهرة الإسفاف والتضليل التي باتت تنتشر كتصرف مألوف في مجتمعاتنا، ولنواجها بموضوعات تحمل قيمة أخلاقية، علمية ونفسية.
ذلك، نعمل على انتشال هؤلاء من مستنقعاتهم الراكدة والمفعمة بالفيروسات الفكرية التي تترك تأثيرًا عميقًا على الشباب والأجيال الناشئة. محاربة التفاهة ليست مجرد مسألة دفاع عن الذوق العام، بل هي استثمار حقيقي في العقول، وضمان لمستقبل ثقافي وفكري أفضل في مجتمعاتنا. ويمكن لكل شخص المساهمة بدوره عبر التحكم بالمحتوى الذي يستهلكه يومياً. بدل الانجراف وراء المحتويات السطحية الفارغة، فلنتوجه نحو ما يثري عقولنا ويضيف إلى معرفتنا قيمة حقيقية.