هواية في البداية

يمكن عد القراءة هواية في بداية الانخراط بها؛ حين نتخير من الكتب أسهلها عبارة وأسلسها أسلوبًا وأجملها غلافًا وشكلًا، لكننا عندما نتورط معها فإنها سوف تصبح الأصل وما خلاها فرع واستثناء محدود. سوف نشتاق إليها كلما غادرناها، نحِنّ إليها في جميع الأوقات، ولا نطيق لها فراقًا. هي أول ما نفعله حينما نستيقظ، وآخر ما تقع عليه أعيننا حينما نؤوب إلى مخادعنا. نأنس بها إن وجدناها، ونستوحش من مكان ليس لها فيه مكان، تمامًا كما قال أحد عشاقها «عبد الجبار الرفاعي»: وقعت أسيرًا للكتب في حياتي. أشعر بوحشة مريرة في بيت يخلو من الكتب، أحتاج الوجود المادي للكتب أكثر من احتياجي لمختلف الأشياء الكمالية في البيت، وحتى بعض الأشياء الضرورية. ثم قال في مقال آخر: أظن أن حياتي ستكون أكثر وحشة بكثير لو لم يكن فيها كتب، أو لو لم أقرأ كتبًا كثيرة.

أو كما قالت شريفة الغامدي: إن تسميتنا لها هواية هو دليلٌ على أننا لا ندرك أهميتها، وهو ما جعلنا نتخلَّى عنها، فالقراءة ما كانت لتكون هواية؛ إنها احتياجٌ في العقل كما الجوع في الجسد والعطش في الفم، يجوع العقل لها ويظمأ، فلماذا لا نُؤتِيه حظَّه منها ونُطعِمه لُقَيمات تقيم أَوَدَه، كما نُؤتِي بطوننا حتى الامتلاء، وربما أكلنا فوق حاجتنا بدافع الاشتهاء؟

لا يمكن أن تكون القراءة هواية، فكيف لشيء يُكسبك معنى الإنسانية، ويُطوّرك معرفيًّا، ويُهذّبُك وجدانيًّا، ويُعرّفُك بالعالم المحيط أن يكون ثانويًّا؟ كما كتب ساجد العبدلي.

أو كما وصفها ياسر الحمداني بقوله:

دهرٌ مَضَى وَأَنَا فِي الْمَكْتَبَاتِ صبي *** قصيدة الشعر أمي والكتاب أبي

بين المراجع أقضي اليوم في نهمٍ *** حتى لقد عرفتني أرفف الكتب

إن القراءة جميلة بما يكفي لكي ننجذب إليها، مفيدة بما يكفي لكي نخصص لها أطول الأوقات، خفيفة حتى إننا لا نشعر بالوقت معها، ثقيلة حتى إننا لا نعود بعدها كما كنا قبلها.

القراءة بحر زاخر أمواجه متلاطمة، وخطيرة يمكن لمن لا يعرفها أن يغرق فيها دون أن يشعر، كما أن من يتعرف عليها سوف يتندم على كل ساعة لم يقرأ فيها. وختامًا فإنها آسرة بما يكفي لكي تتجاوز كونها هواية إلى عادة أصيلة وسلوك يومي. فهل نعي ذلك قبل فوات الأوان؟