صرخة اجتماعية.. أوقفوا طوابير الأفراح والأتراح

ورد في الحديث الشريف: ”الخير عادة والشر عادة“.

أصبحنا اليوم نعيش ظاهرة اجتماعية تحمل في ظاهرها وباطنها دلالة عميقة على أصالة مترسخة في وجدان أبناء المجتمع وثقافتهم، وهي المشاركة في المناسبات الاجتماعية، سواء كانت أفراحًا أم أتراحًا. وقد يرى البعض أن الحضور في هذه المناسبات بلغ منزلة ”الواجب الاجتماعي“، ما لم يمنع من ذلك مانع قهري، انطلاقًا من كونها سنة إنسانية واجتماعية لا مفر منها.

إلا أن هذه الفعاليات، في الآونة الأخيرة، بدأت تُحدث نوعًا من الإرباك أو الأزمة في طريقة إحيائها، سواء بالنسبة لأصحاب المناسبة أنفسهم أو للمدعوين، مما يستدعي التوقف عند هذه الظاهرة وتأمل أبعادها وتبعاتها.

فلننظر ماذا يقول الشرع في مسألة تلبية الدعوات الاجتماعية، كحضور حفلات الزواج أو مناسبات العزاء ونحوها.

الجواب: يكفي في مثل هذه المناسبات الحضور والمشاركة بالوجود البصري فقط، دون الحاجة إلى المصافحة اليدوية أو تشكيل طوابير طويلة تؤدي إلى إهدار الوقت، وربما تتسبب في إحراج الآخرين.

هذا هو رأي الشارع المقدس، الذي يتميز برشاقة اجتماعية وذوق إنساني رفيع، إذ يوجه أداء هذا الواجب الاجتماعي بأسلوب ميسّر ومرن، يعكس عمق الروابط العائلية والمجتمعية.

أما ما نشهده اليوم، فهو عرف مستحدث صنعه المجتمع ذاته، حتى أصبح عائقًا أمام تأدية هذا الواجب بروحه الأصلية التي تنبع من المحبة، والمودة، وروح التلاحم الاجتماعي، التي تصوغ مشهد الجسد الواحد والترابط الأخوي العميق.

أصبحت ظاهرة ”الطوابير“ في المناسبات الاجتماعية - سواء في الأفراح أو الأتراح - تنتشر بشكل متزايد وغير مألوف في معظم المناطق، حتى باتت تثير الضجر والتأفف لدى شريحة واسعة من أبناء المجتمع. فقد تحوّلت لدى البعض إلى عبء ثقيل، يُلقي بظلاله منذ لحظة تسلّمه دعوة لحضور مناسبة سعيدة، أو عند استعداده لتقديم واجب العزاء، إذ يتبادر إلى ذهنه أنه سيواجه صفًّا طويلًا قد يضم مئتين أو ثلاثمئة شخص، معظمهم بانتظار دورهم للسلام على أصحاب المناسبة فردًا فردًا، والذين هم بدورهم صف طويل أيضًا.

وغالبًا لا يعرف الحاضر من العائلة سوى شخص أو اثنين، بينما البقية أجيال لم يسبق له أن التقى بأحدهم، حتى صدفة. وهذا الوضع بات يشكّل عبئًا اجتماعيًا إضافيًا يستحق إعادة النظر.

الحل المقترح والمنطقي هو أن يقتصر الحضور في واجهات الاستقبال على أفراد العائلة الأساسيين، الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد، دون الحاجة إلى اصطفاف العائلة أو القبيلة بأكملها.

وكما هو معلوم، فإن المجتمع يتكوّن من شرائح عمرية متعددة، تضم الكبير والصغير، القوي والضعيف، السليم والمريض. وهذا التنوع يستدعي مراعاة دقيقة لظروف بعض الأفراد، سواء من حيث أوضاعهم الصحية أو مشاعرهم النفسية، التي قد تتأثر سلبًا بسبب الوقوف الطويل في هذه الطوابير، فضلًا عمّا تسببه من إهدار للوقت وإرهاق غير مبرر.

بل يمكن القول إن مشهد الطوابير المزدحمة بات يُمثّل مظهرًا اجتماعيًا غير لائق، لا ينسجم مع روح العصر ولا مع ثقافته، ما يجعل من الضروري السعي لتصحيح هذا السلوك الاجتماعي. ومن هنا تبرز أهمية العودة إلى توجيهات الشارع المقدس، الذي وضع مبادئ واضحة تُراعي التيسير ورفع الحرج، وتُقدّم حلولًا عملية لمعالجة مثل هذه الظواهر غير الإيجابية، التي أدّت إلى نوع من التذمر النفسي لدى شريحة واسعة من أبناء المجتمع، بمختلف فئاتهم.

ومن خلال تأملنا في الحديث الشريف، يتضح لنا أن كل سلوك بشري قابل للتغيير متى ما توفرت الإرادة لدى الفرد، سواء أكان هذا السلوك عادة إيجابية أم سلبية؛ فالقرار بيد صاحبه. وقد خضنا تجربة اجتماعية حيّة أثبتت ذلك بجلاء خلال جائحة كورونا «كوفيد - 19»، حيث التزم الجميع - بتوجيهات حكيمة من القيادة العليا حفظها الله - بتطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي في جميع الأماكن، بما في ذلك المناسبات الاجتماعية.

لقد أسهمت هذه الثقافة الجديدة في حماية المواطنين والمقيمين، ووفّرت عليهم كثيرًا من المشقة، كما سهلت أداء الواجبات العائلية والاجتماعية دون كلفة نفسية أو بدنية. ولا يمكن إغفال ما أظهره النظام الصحي في المملكة العربية السعودية آنذاك، من كفاءة عالية جعلته في مصافّ الأنظمة العالمية الرائدة في مواجهة الجائحة، وهو ما يعزز من أهمية مراجعة بعض الأعراف الاجتماعية التي ثبت عمليًا إمكانية تعديلها لصالح الأفراد والمجتمع.

وهذه هي ثقتنا وقدرتنا على تغيير العادات والسلوكيات الاجتماعية، سواء كانت عرفية محلية أو مستوردة من الخارج، على مستوى الفرد والمجتمع، فبإمكاننا استبدال ما ينعكس إيجابيًا على المجتمع وأفراده، ويَنسجم مع إيقاع وثقافة الحياة الحديثة. ولا ينبغي لنا أن نستسلم أو نرضى بمظاهر السلوكيات أو العادات التي تعيق حركة الحياة العصرية وتشوهها.

كاتب رأي، وموظف في القطاع المصرفي.