الملاك الطاهر

كلما كبرتُ عاما فهمت أكثر بأن أبي لم يكن رجلاً عاديًا، بل كان ملاكًا يمشي على الأرض ليس له جناحان كملائكة السماء، ولكن كانت له يدٌ تمسك بي حين أتيه أو أسقط، ونظرةُ ثبات حين أرتبك وأخاف، وصوتٌ فيه حنان الدنيا كلها، ودمعة فرح في عينيه حينما أنجح وأفوز.

أبي لم يكن يتحدث كثيرًا، لكنه إذا تكلم تفوه بكلمات عظيمة ومواعظ مفيدة، كل حرف وكل كلمة قد عاشها بآلامه وأفراحه لأجل كرامتنا، وكل نصيحة منه كانت تختبئ فيها تجربة حياة. كنت أظنه قاسيًا حينما يطلب مني أن أستيقظ باكرًا وأهتم بدروسي وعملي ونجاحي أو حين يرفض لي طلبًا رغبت فيه كثيرًا. لكنني اليوم أدركت بأن كل كلمة «لا» قالها لي كانت في محلها، كان يخاف علي ويحميني بطريقته، كان يرى في المستقبل مالم أكن أراه في لحظتي.

للأب تأثير لا يقدّر بثمن، فهو البوصلة التي توجهك، والسند الذي لا يميل، وسبب التوفيق في الحياة ورضا في الدنيا والآخرة، فإذا أحببته وقمت ببره ازدهرت حياتك، فالأب هو حكاية عمر ورحلة حياة، ومدرسة من الصبر والعطاء، عاش سنوات عجاف، وأيام قاسية لا يعرفها أحد ولكنه لم يسمح لدمعته أن تنزل أمامك ليكون هو الجبل الشامخ التي تحتمي وراءه من الرياح العاتية. فكل ما يقوله ليس عابرًا، فكل كلمة منه عظة، وكل توجيه منه كنزٌ يجب أن يُصان.

وأتذكر من مواعظه قال لي يومًا:

”يا ولدي تجري جري الوحوش غير رزقك ما تحوش“ وكنت معترضا على هذه العظة والعبرة حتى أدركتها يومًا ما، بأن الإنسان يكون قنوعًا بما رزقه الله، فالقناعة كنز لا يفنى، ولا تستحق هذه الحياة الفانية كل هذا العناء والتعب.

ومن المواعظ الجميلة الأخلاقية أخذتها منه: ”الرجل الحقيقي لا يرفع صوته، بل يرفع نفسه“ وكانت هذه الجملة مرآتي في مواقف كثيرة، حين أنفعل لموضوع ما، أتذكر كلامه وأهدأ، فالصراخ لا يأتي بأي ثمرة مجدية، وإنما يؤدي إلى توتر الأعصاب وارتفاع الضغط وتشنج بالعلاقات. فأبي علمني بأن الاحترام لا يُطلب، بل يُكتسب. وأن الرجولة ليست بالصوت العالي، بلا بالمواقف الثابتة والأخلاق المحمدية، وأن من يهتم بأسرته ويرعاهم بكل حب هو بطل في صمت.

أيها الأبناء لا تجعلوا انشغالكم بالحياة يُنسيكم من كان هو السبب في وجودكم بالحياة، وافتخروا بآبائكم وأحبّوهم وشاركوهم فرحتكم ونجاحاتكم. الأب لا ينتظر منكم شيئًا أكثر من البر والاحترام ودفء الكلمة والتواصل الجميل. انظروا إلى قمة فرحة الآباء والأمهات في حفل تخرجكم من الجامعات والكليات والمدارس، فيعتزون بكم فلا تخذلوهم.

مسك الختام:

برّوا أباءكم، فإنهم جسركم إلى رضا الله، ومحبتهم سبب التوفيق والبركة في حياتكم ومظلتكم إن ضاقت بكم السُبل.