الشخصية الجاذبة
كنتُ أتحدث مع أحد الأصدقاء في جلسة تغمرها المودة والاحترام وتبادل الآراء والأفكار، وكان محور حديثنا عن الشخصية الجاذبة. وانطلق النقاش بيننا حول هذه الشخصية عندما قلت له: إنّ ”الشخصية الفلانية“ شخصية جاذبة ومؤثرة، ولا يمكنك إلا أن تحبها وتحترمها، دون أن تخوض معها أي تجربة حياتية لاختبار مدى صدقها من كذبها، أو مستوى التجمّل الذي تحمله بين طياتها. فقد نرى بعض الأشخاص يختبئون وراء مكياج اجتماعي زائف، وربما تكتشفهم من الوهلة الأولى، أو من خلال عدة تجارب تخوضها معهم.
يظنّ البعض أن الشخصية الجاذبة هي صاحبة الصفات والسمات الجمالية الخَلقية الظاهرية؛ كأن تكون ذات لون بشرة نضر وناعم، أو ذات عينين فيهما من الجمال ما يتغنى به الشعراء، أو في قوام جسد جميل ومميز يشدّ النظر إليه، أو في هندام أنيق ومرتب، أو لسان بليغ وفصيح. وقد تكون إحدى هذه السمات، أو بعضها، من المؤثرات في تكوين الشخصية الجاذبة، ولا يستطيع أحد إنكار هذا الأمر الطبيعي والواقعي، فالله جميل يحب الجمال. إلا أن هذه الصفات الظاهرية، رغم تأثيرها، لا تكشف لنا شيئًا عن باطنها. ومع ملاحظة أن الجمال الظاهري إذا اعتاد عليه الإنسان وأصبح يراه بشكل يومي، فإن درجة الإعجاب والرغبة تجاهه تتضاءل شيئًا فشيئًا، حتى تصبح تلك السمات الجمالية عادية، لا تميّز لها عن الآخرين. حينها، تتحول الجاذبية من ”صدمة إعجابية“ إلى تأثير ضعيف، يستمر في الانخفاض التدريجي.
إذن، السؤال المهم الذي ينبغي أن نطرحه على أنفسنا: ما أبرز سمات الشخصية الجاذبة التي لا نملّ منها، بل نزداد ارتباطًا بها، وتعمّقًا في وجداننا يومًا بعد يوم، بل لحظة بعد لحظة، حتى لا يمكن الاستغناء عنها مهما كلّف الأمر؟
في قراءتي المتواضعة حول الشخصية الجاذبة والمحبوبة، استنتجتُ أن أبرز تلك السمات التي تتمتع بها الشخصية المؤثرة، هي ما ذكره الله تعالى في سياق الآية الكريمة: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ سورة النور: 22. نلاحظ أن هذه السمات الأخلاقية العالية، هي في جوهرها باطنية لا ظاهرية، كما ورد في بعض الصفات الجمالية أعلاه. أي أنك لا تستطيع أن تتعرف على سماتها أو تلامسها إلا إذا اقتربت منها. وهذا هو السر الحقيقي في الشخصية الجاذبة والمؤثرة؛ فهي شخصية تحمل خلقًا ملائكيًا في اتساعها الروحي والقلبي، في تسامحها وصفحها وعفوها. فالتكامل الإنساني يجتمع في طياتها مع باقي السمات الأخلاقية الأخرى. ومن سياق الآية الكريمة، نفهم أن الله سبحانه وتعالى يريد أن تسود هذه الأخلاق بين عباده؛ لأنها تصنع تكاملاً إنسانيًا ينزل الرحمة الإلهية، والبركة، والمحبة، والمودة على عباده، مما يجعلهم كالجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد.
وتتجسد هذه السمات كذلك في الشخصية القيادية. فعندما نقرأ عن السمات البارزة في القيادات الملهمة، نجدها تتصف بهذه الصفات الخلقية الرفيعة. وهذا ما يريده الله عز وجل؛ أن يسود المجتمع الإسلامي من الكفاءات المتنوعة، العالية الهمم، والنماذج التي يُقتدى بها. إذن، فإن السمات الأخلاقية الباطنية النبيلة والجميلة هي سرّ الجاذبية، وسبب التعلق ببعض الناس دون غيرهم.
ويزداد تعلقنا وارتباطنا بهم كلما تكشفت لنا أعماق جمالهم الإنساني. حين نجدهم، في كل تجربة من تجارب الحياة، نماذج ملائكية تُحقن بها أوردتنا الروحية، وتزودنا بالدروس من روح المنظومة الأخلاقية الصافية، والطاهرة من فكر وثقافة العفو والصفح، مرورًا بمحبة الله وغفرانه، والسعي لرضاه سبحانه. وهذا يعني أننا - وأنتم - على طريق السعادة في الدارين، فضلًا عن انعكاساتها الإيجابية علينا من صفاء ذهني، وصحة نفسية، وفكرية، وجسدية؛ باعتبارها منهج حياة لبناء علاقات اجتماعية وعائلية سليمة، خالية من الأمراض النفسية التي تدمّر الروح والجسد، وتفكك العلاقات الاجتماعية، حين تُختزل في مشاعر الحقد، والكراهية، والبغضاء التي لا تغيّرها الأيام ولا السنون، بل تزداد مع الزمن إصرارًا، وقد تصل إلى درجة التفكير بالانتقام بكل الوسائل الشيطانية، مما يؤدي إلى تفشي التنازع، والاحتراب، والتشنجات، والخصومات، والتفكك الأسري والاجتماعي.
إن سرّ الشخصية الجاذبة هو جوهرها العفوي والصفح في كل أبعادها الإنسانية والحياتية. فهي من تستوعب التجربة، ثم تفككها بعقلانية وروح عالية. وهي من تحمل في داخلها المودة، والمحبة، وحسن الظن، والصبر، وتضع نصب عينيها، في بداية ونهاية كل تجربة، طريقًا واسعًا من العفو، والتسامح، والتصالح، والإصلاح، والصفح. لأن غايتها الحقيقية هي إسعاد من حولها، عبر البحث عن مختلف سبل العلاج وتصحيح المسار، مهما كلّف الأمر، لأن الغاية الكبرى مرتبطة برضا الله سبحانه وتعالى. وهذا الأمر يستحق منا تحمّل المشقة، والعناء، والتعب، والجهد، والصبر، ف «الثواب على قدر المشقة»، كما ورد في الحديث الشريف.
عندما تصادفنا في حياتنا شخصية ذات سمات جاذبة، وإن لم يكن بيننا وبينها علاقة اجتماعية وثيقة، فعلينا ألا نفوّت تلك الفرصة، بل نتمسك بها ونعمل على تعميق علاقتنا معها. لأن هذه الشخصية الجاذبة سوف تزيدنا وعيًا وإدراكًا لمعنى الحياة الحقيقية، وتضيء لنا الطريق، وتشعرنا بالسعادة في الدارين. وهذه من أبرز أهداف الشخصية الجاذبة، التي تتمثل في تعاليم السماء، فهي صانعة سلام.