الطائفة والطائفية: المفهوم- الواقع- المأمول(القسم الثاني)

   شرحنا في القسم الأول خطورة السكوت عن قضية الطائفية،والتباين بين ما ترفعه الطوائف من شعارات وممارساتها على الأرض، وبينا زوايا من الجناية على مفهوم الطائفية كتسييس المصطلح وتوظيفه، وتطرقنا إلى إشكالات في فهم معنى الطائفة والطائفية، وإشكالية الأقلية والأكثرية في الطائفية، ثم استعرضنا تعريفات الطائفية في اللغة وفي علم الاجتماع وعلم السياسة حتى وصلنا إلى استعراض معنى الطائفة في القرآن وعند المفسرين من خلال عرض لكل الآيات التي وردت في القرآن، وهنا نبدأ بالنتائج المستخلصة لتلك التعريفات.
  
   من نتائج التعريفات:
   أولاً: ينبغي الفصل والتفريق بين معنيين, المعنى المراد من كلمة "طائفة", والمعنى المركب والمختلف الذي يأتي بإضافة كلمة أخرى لمفردة الطائفة, بحيث يتحول المعنى إلى مصطلح مركب, وهو ما تذهب إليه اللغة الانجليزية القائمة في معظم مفرداتها على التركيب، وبالتالي يصبح الأخذ بها محفوفاً بالمشكلات. فالإضافة تعطي المفهوم معنى محدداً أخر, كقولنا: الطائفة الدينية. والطائفة السنية والطائفة الشيعية عند المسلمين. أو كقولنا الطائفة الأرثوذوكسية والطائفة البروتستانتية والطائفة الكاثلوكية عند المسيحيين.
   ثانياً: التعريفات الغربية تميل نحو إطلاق تعريف الطائفة والطائفية على نتاج المجتمعات الغربية من اجتهادات داخل الدين المسيحي التي تتحول إلى جماعات خاصة ومنعزلة عن الكيان الكلي للمتدينين والمجتمع فيطلقون عليها أسم "الطائفة الدينية". هذا المصطلح: "يعني في المفهوم الغربي فرقة دينية تدين بالولاء لزعيم حي أو تعاليم جديدة أو ممارسة غير عادية. ويتراوح عدد أفراد الطائفة ما بين عدد قليل من الأنصار يدينون بالولاء لزعيم ما, وتنظيمات على نطاق العالم تديرها سلسلة معقدة من القيادات...وبما أنه ليس هناك تعريف واحد للطائفة الدينية في المفهوم الغربي, لذا يصعب حصر أعدادها وعضويتها على وجه الدقة. ومع ذلك يقدر الخبراء هذه الطوائف بثلاثة آلاف طائفة في مختلف بقاع العالم. وتبلغ عضوية هذه الطوائف مجتمعة ثلاثة ملايين شخص معظمهم من الشباب البالغين.
   لعل أسوأ الطوائف الدينية سمعة بالولايات المتحدة الأمريكية في أواخر القرن العشرين هي جماعة المعبد التي قادها القس البروتستانتي جيم جونز, إذ أن مئات من أعضاء الطائفة انتقلوا إلى كوميونة ريفية تسمى جونز تاون في غايانا بأمريكا الجنوبية, وعاشوا هناك تحت حكم جونز المطلق. وفي عام 1978م اغتال قادة الطائفة أحد أعضاء الكونغرس وثلاثة من الصحفيين كانوا يحققون فيما كان يدور من نشاطات داخل جونز تاون. فما كان من جونز إلا أن أمر أتباعه بالانتحار فانتحر ما يزيد على 900 شخص... وهناك جماعات أخرى مثل هير كيرشنا التي تأسست في كلكتا بالهند عام 1954م وانتشرت في العالم الغربي, وكذلك المونيون التي انبعثت من الكنيسة التوحيدية ويُعرف أتباعها باسم المونيون".1 لذا لا يمكن الاعتماد على التعريفات الغربية لأنها تتأسس على واقع مغاير لما هو مقصود من معنى الطائفة في العالم العربي والإسلامي.
   ثالثاً: لا ينحصر تعداد الطائفة بقلة عددها أو كثرة أهلها. ويمكن توصيف أي جماعة من الناس بالطائفة حتى لو كانوا أثنين من الناس أو مليونين. وهو الأمر الذي تفيدنا به المعاني اللغوية وكذلك معاني جميع الآيات القرآنية السابقة الذكر.
   رابعاً: إن كلمة طائفة هي من مرادفات كلمة جماعة من الناس أو فرقة من الناس أو مجموعة من الناس, وقد تأتي جميعها بمعنى واحد, وفي أغلب الأحايين يحكمها سياق النص في تحديد المدلول. نستخلص ذلك من المعنى اللغوي الرابع, ومن أقوال المفسرين في موارد الآيات رقم:1 و2 و3 و4 و5 و6 و7 و11 و12 و13 و14 و15 و16 و18 و19 و21 و22 و23.
   خامساً: لا تنحصر الطائفة بجنس محدد كالدين والمذهب واللغة والعرق. فأي جماعة من أي لغة كانوا أو دين أو مذهب يمكن وصفها بالطائفة. يتطابق الأمر مع مدلولات المعاني اللغوية المذكورة من جهة, ومع المقاربة بين جميع المعاني  لموارد الآيات, فتارة تعني المنافقين والكافرين والمتخلفين والمرتدين والمكذبين, وتارة أخرى تعني المؤمنين والمخلصين والتائبين والمحاربين والصادقين والمصدقين والمتعلمين والمهاجرين, وتارة أخيرة تعني الكليات كالناس عامة  أو المسلمين كافة, أو عامة أهل الكتاب...
   سادساً: إطلاق صفة الطائفة على الجزء لا يعني استبعاد إطلاقها على الكل. فالقول بطائفة الأرمن لا يعني حصرها فيها بحيث لا يمكننا القول على كل المسيحيين طائفة. فكل المسيحيين طائفة, وكل جزء منهم طائفة أيضاً. وكذلك الأمر مع جميع البشر كونهم طائفة بشرية, وكل جماعة منهم طائفة أيضاً. يستفاد ذلك من تجميع كل موارد الآيات مع بعضها, مثل الآية الأولى والثانية على سبيل المثال والمراد فيهما بالطائفة بعض من اليهود والنصارى بينما في الآية الثالثة والعشرين يراد منها مجمل اليهود والنصارى.
   سابعاً: تتصف كل طائفة بمشتركات تجمع أهلها كالمصالح الحياتية أو القناعات الجامعة أو المعتقدات الواحدة. ونستخلص ذلك من المعنى اللغوي الرابع و من جميع موارد الآيات المذكورة.
   ثامناً: يمكن حصر معنى الطائفة بجماعة تعيش في رقعة جغرافية محددة, وفي الوقت ذاته يمكن أن يشمل المعنى جميع أرجاء المعمورة, والأكثر مرونة من ذلك وأعم لمعنى الطائفة هو عدم الاشتراط فيها الاستقرار في مكان ما, بل قد تكون دائمة التنقل أو منتشرة في مناطق جغرافية متقاربة أو متباعدة, نستفيد هذا المعنى من موارد الآيات رقم: 1 و6و7و11و12و14و16و24, ومن بعض المعاني اللغوية أيضاً.
   أما مفردة "الطائفية" فهي مشتقة من الطائفة, وكما يقول النحويون, هي مصدر صناعي ينتهي بياء وتاء مربوطة ويصاغ من الأسماء الجامدة والمشتقة مثلما يصير الحر: حرية, ويصير الإنسان: إنسانية, وعالمي: عالمية,2 والطائفة: طائفية. وهي كالقومية نسبة إلى القوم3 وكالعروبة نسبة إلى العرب, وكالفارسية نسبة إلى الفُرس, وكالمسيحية نسبة إلى المسيح, وكالباكستانية نسبة إلى باكستان, وكالهندوسية نسبة إلى الهندوس...الخ.
   هذا الاشتقاق لا يعني إضفاء مسحة سلبية على الطائفة المعنية أو اتهام جماعة ما بما هو معيب وقبيح, وإنما هو توصيف وتأكيد على الارتباط الطبيعي لأفراد جماعة ما ضمن دائرة مشتركة ما كالجنس والدين والمذهب واللغة والعرق.

العلاقة قائمة ما بين مصطلح الطائفية والجانب العقائدي لأهل الطوائف, لاسيما من الناحية السياسية للمصطلح, حيث اصطبغت دلالاته في هذا العصر بوجه سياسي صارخ " أكثر من كونه نتاجاً للتمايز الفقهي, الذي هو من طبيعة الشريعة القائمة على التعددية, والنسبة في النظر إلى النصوص".4
تاسعاً: كل طائفة دينية هي شريحة اجتماعية غير محددة بحدود جغرافية، ويشترك أصحابها بالإيمان بمذهب تابع للدين الأم الذي يُشكل المظلة الجامعة لجميع المذاهب النابعة منه، وتمتاز كل طائفة عن أخواتها ببعض الاختلافات في ممارسة التدين أو في ترجمته واقعياً في الحياة العملية والعلمية.

   الطوائف في الخارطة السياسية للمجتمعات
   لا تعيش المجتمعات البشرية في نسق اجتماعي وسياسي ثابت وواحد, بل من سمات التركيبة الديموغرافية لسكان الدول التنوع والتعدد. التعددية الثقافية والتنوع المذهبي والعرقي والطائفي في البلد الواحد. وأغلب الدول العربية والإسلامية تعاني, بشكل ظاهر أو مكتوم, من مشكلات طائفية أو أقلية, بغض النظر عن شكل تلك المعاناة, دينية ومذهبية أو قبلية وقومية وعرقية, فقد تتخذ الصورة توتراً طائفياً على قاعدة دينية كما يحدث بين السنة والشيعة في باكستان والعراق, و"قد يصعد المشكل العرقي في بلدان أخرى, مثل الأكراد في سوريه والعراق, والأمازيغ والبربر في المغرب, والنوبيين بدرجة ما في مصر"5
 ولوجود هذه الفسيفساء المتشابكة للمجتمعات في العالم العربي والإسلامي المكونة من أعراق وديانات ومذاهب وقوميات متنوعة, ليس سهلاً على الباحث أن يضع تحديداً دقيقاً لنسبة الطوائف والأقليات, فـ" الصعوبة الأولى التي تواجه أي باحث في خارطة الأقليات في العالم العربي, هي صعوبة إجرائية, تتمثل في عدم وجود إحصاءات آنية متطورة في كثير من أقطاره, وتقادم الإحصاءات في بعض البلدان كذلك"،6 ناهيك عن تضارب الأرقام التي تعلنها الدول المعنية أو تلك التي تصدر عن جهات خارجية معارضة أو حقوقية أو مطلبية.
وفيما يلي لقطات من الخارطة السياسية للمجتمعات العربية والإسلامية:
-  مصر تحكمها أغلبية سنية وفيها أقليات مسيحية 9%, قبطية أرثوذكسية, وأقليات نوبية سنية, وأقلية شيعية, وأقليات من الأرمن واليهود والبيجا البارية والبربر والأفارقة والغجر.7
-  إيران تحكمها أغلبية شيعية وفيها أقليات عربية ومسيحية ويهودية وسنية, وأقلية كردية سنية أيضاً.
- يشكل المسيحيون في الأردن نحو 5% من السكان, معظمهم من الروم الأرثوذكس والكاثوليك, أما الشركس- مسلمون سنة- فيشكلون 1,6%, وهناك أقليات شيشانية- مسلمون سنة- وأرمن وأكراد وتركمان ودروز.8
- يضم العراق أكثرية مسلمة شيعية وأقليات متعددة المذاهب والديانات. وأهل العراق: مسلمون: شيعة ( على المذهب الإمامي), وسُنة ( شافعية, وحنفية, وقليل من الحنابلة), ومسيحيون: كاثوليك, ونساطرة, وبروتستانت, وأرثوذكس, وقليل من الأقباط, والسريان, وأرمن وغيرهم. وقليل جداً من اليهود. وصابئة مندائيون. وكاكائيون. وتواجد بهائي ملحوظ. عدد هذا الخليط الكلي حتى نهاية الثمانينات: 24,683,313 ويقدر العدد حالياً بـ 26 مليوناً.9
-  باكستان تحكمها الأغلبية السنية وفيها أقلية شيعية.
-  الهند تحكمها, وفق نظام ديمقراطي, الأغلبية الهندوسية وفيها أقليات مسلمة سنية وشيعية وديانات مختلفة وكثيرة جداً.
-  سوريا تحكمها, وفق نظام بعثي, أقلية علوية تشكل 10% من السكان. وفيها أكثرية سنية وأقليات شيعية, ودرزية 4%, ومسيحية عربية, ويهودية عربية, وكذلك أقلية كردية 4%, والتركمان الترك, والشركس...10
-  أفغانستان تحكمها أكثرية سنية مع وجود أقلية شيعية.
-  السعودية تحكمها أكثرية سنية وفيها أقلية شيعية 10% من السكان وفق تقديرات (السي آى إيه) أي 2,7مليون نسمة, وفق التعداد السكاني في سبتمبر عام 2004, وأخرى إسماعيلية 3%.11
-  البحرين تحكمها أقلية سنية وفيها أكثرية شيعية. يوجد فيها العديد من الأقليات العرقية والدينية, مثل الإيرانيين ويشكلون 10%, والآسيويون من غير الإيرانيين (الهنود والبلوش والباكستانيين وغيرهم) 17%, وترتفع بعض التقديرات بالشيعة في البحرين لنسبة 70% حسب تقرير السي أي إيه 2005. 12
- في الجزائر, يشكل البربر السنة(أهمهم الشاوية والقبائليون والشلوح) 26% من السكان, وهناك أقليات أخرى كالمسيحيين العرب والإباضيين (المزابيون وهم من البربر) والطوارق( بربر سنة من البدو الرحل)...13
- في قطر, يشكل الإيرانيون (بمن فيهم البلوش) 10% من إجمالي السكان, فيما يشكل الباكستانيون (بمن فيهم البلوش) 18%, والهندوس 3%. ويمثل الشيعة نسبة 10% حسب تقرير الأطلس العربي الذي وضعته البعثة الفرنسية.14
-  الكويت تحكمها أكثرية سنية 45% وفيها أقلية شيعية 30%. وفيها مسيحيون عرب 8%, وإيرانيون 5%...15 ومنذ تأسيسها كسبت الكويت تنوعاً طائفياً وقبلياً وعرقياً, ويتضمن هذا الخليط أعراق من أصول نجدية وإيرانية ومن منطقة البحرين القديمة: الأحساء والقطيف والبحرين.16
-  تركيا, في سياق نظام علماني, تحكمها أكثرية سنية وفيها أقليات شيعية وعلوية ومسيحية, وأقليات كردية ورومانية...
- في دولة الإمارات العربية المتحدة, يشكل السكان من أصل إيراني 12% من السكان, والآسيويون الآخرون 50%, وحسب الأطلس العربي وتقارير (السي أي أيه) يمثل الشيعة 16% من السكان, والسنة 80%, والأديان الأخرى 4%.17 وتختلف المذاهب المتبعة عند بعض أهل الإمارات من إمارة إلى أخرى "حيث إمارة أبوظبي تعتنق المذهب المالكي, وإمارة الشارقة ورأس الخيمة يتبعون المذهب الحنبلي, ولا يعني هذا عدم وجود بقية المذاهب السنية والشيعية الأخرى فيها. ويوجد في دبي تنوع لجميع المذاهب: الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي, بالإضافة إلى المذهب الجعفري الشيعي, حيث تقع هناك المحكمة الرئيسية الشيعية لعموم الإمارات.18
- السودان, تتميز تركيبته السكانية بالتنوع العرقي والديني واللغوي, فهناك الزنوج والعرب والبيجا وغيرهم. أما من الناحية الدينية فالمسلمون يشكلون 70% من السكان معظمهم في الشمال, وأغلب المسيحيين يعيشون في الجنوب وبعضهم في العاصمة الخرطوم.19
- سلطنة عمان. النظام الرسمي فيها يعتنق المذهب الإباضي. وترجع جذور الإباضية في عمان إلى القرن الثامن الميلادي, بالإضافة إلى وجود جميع الطوائف الإسلامية السنية والشيعية. ويتمركز الإباضيون بكثافة في وسط البلاد, ويتواجد السنة على طول ساحل الباطنة وفي منطقة الظاهرة المحاذية لأبوظبي, ويقطن الشيعة المدن الساحلية.20 ويشكل الإباضيون 80% من السكان.21
-  لبنان, يسير وفق حكم ونظام "الديمقراطية الطائفية" و"الطائفية السياسية" و"الطائفية الدستورية", يتواجد فيه 19 مذهباً رسمياً من المسلمين والمسيحيين.
- المغرب, يشكل البربر (مسلمون سنة أهمهم الريفيون والأمازيغ والشلوح) 36% من السكان, وهناك أقليات أخرى كالطوارق واليهود والأوربيين المسيحيين والأفارقة...22
- ليبيا. يبلغ عدد السكان فيها 6,097,556 حسب تعداد عام 2005 وتسيطر القبلية على المشهد الليبي دون الطائفية الدينية.23

الفتن الطائفية
الجذور والأسباب
   عندما تتصاعد ألسنة دخان الفتن توهن النفوس السابحة في ملكوت خالقها. وعندما يحلم الناس بالاستقرار تبحث سفنهم عن شواطئ الأمل. وكيفما تتناطح النفوس المتنافرة في الفتنة ستتناثر المجتمعات كضحايا على المقاصل بين الضياع والعصبية. فما دامت حرائق الفتن الطائفية في العراق ولبنان وأفغانستان لم تتوقف عن بث دخانها، فإن الخشية من انتشار سمومها في سماء المناطق المحيطة لن تتوقف أيضاً. هذه الحقيقة البديهية, في منطق انتشار الفتن, قد يتغافل عنها بعض الساسة, من باب لعل وعسى أن تُظهر الأيام ما يمنع من تحققها, أو يردع طالبيها. ولكنها تصبح كالطامة الكبرى إذا ما دنت أو تحققت.
   فما هي أسباب وجذور الفتن الطائفية؟ ومتى تظهر الفتن الطائفية؟ ومن يحرك مياهها الراكدة؟ ولمصلحة من تنفجر وتستمر الحروب الطائفية؟...
   هذه الأسئلة تطفو على السطح عندما تظهر الفتن الطائفية وتحتدم الصراعات المذهبية كما هو الحال في العراق، أو عندما تمسي غيوم الأوضاع في بلد ما منذرةً بأخطار الحرب الطائفية كما هو الحال في لبنان بين حقبة زمنية وأخرى. والإجابة على تلك الأسئلة إما أن تكون منغلقة على أحداث واضحة المعالم كلبنان أو العراق, أو تكون مطلقة على عموم الفتن الطائفية متجاوزة الحالات القائمة, ولكن تشملها في العموميات. وقد اخترنا الطريقة الثانية.
   لكل فتنة طائفية، عند وقوعها، أسباب آنية لاشتعالها، وقد تكون هذه الأسباب مجرد عود الثقاب الذي يشعل الفتيل، وأحياناً تكون مفتعلة لحاجة المفتعلين لتغيير الظرف والجو السياسيين المحيطين بهم. ولكن هناك أسباب شبه ثابتة تقف خلف الكثير من الفتن الطائفية تاريخياً وحاضراً وربما مستقبلاً أيضاً.
   مع الفوارق البسيطة بين أسباب الفتن الطائفية وجذورها في المنظور العام للقضية, إلا أن هناك أسباب وجذور قد تختص بالعالم النامي دون العالم المتقدم. مع ملاحظة أن بعض النقاط التالية بمثابة جذور للفتنة وبعضها عوامل مساعدة لها:
1- ارتباط المجتمعات سلبياً بالموروثات التاريخية, مما يجعلها حبيسة التاريخ ومرتهنة له. بل تحتكم إلى وقائع حدثت منذ عشرات القرون في خلافاتها الاجتماعية والسياسية القائمة. والأدهى التناصر لتلك الوقائع وكأن النصر الكلامي فيها سيغير من حال الأمة اليوم, أو يغير ثوابت التاريخ كما يعتقد بها كل فريق! كموضوع الإمامة والخلافة بين الشيعة والسنة عند المسلمين, وموضوع العقل والروح (العلم والدين) بين الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت عند المسيحيين.
2- غياب ثقافة التعددية الفكرية وثقافة التوافق السياسية, وبالتالي غياب القبول بالتعددية الاجتماعية والثقافية في المجتمعات عامة. من هنا تأتي مصيبة الخلط في إدراك المفاهيم بشكل مغلوط, كالخلط بين مفهومي الطائفية الطبيعية والطائفية الشاذة, أو بين مفهومي الطائفية كسياسة تُمارس والطائفية كحالة اجتماعية, أو بين التوافق الطائفي والتمييز الطائفي.
3- وجود أمراض ذاتية ونفسية وأخلاقية ناتجة عن طبيعة وبيئة المنظومة الاجتماعية والسياسية والفكرية في المجتمعات, تجعل الارتكان لها حالة سارية عند المتعاطين في القضايا المرتبطة بالطائفية, كالحقد والكراهية والحسد...والعصبية بحيث يتناصر أهل كل طائفة ضد الطوائف الأخرى, وتحركهم تفاصيل صغيرة جداً.
4- وجود مصالح ضيقة, أو أجندات سياسية ضيقة, عند بعض الأشخاص أو بعض الجماعات المعنية بالطوائف أو المهيمنة عليها, فتعمل لأجلها دون النظر للأخطار المترتبة عليها. فتهيمن ديمقراطية المصالح الضيقة على ديمقراطية المصالح العامة. ومن ثم تستقوي هذه الجماعات بالهوية الطائفية على حساب الهويات الوطنية الجامعة. كل ذلك يعطي لأصحاب المصالح الذاتية أو الجمعية للعمل على الاستفادة من أوضاع دولهم, أو نفوذهم فيها نحو استغلال الحالة الطائفية لمصالحهم ذاتها. فـ "بقاء المجتمع المدني ومنظمات الحديثة في حالة من التأخر, الذي يمنعه من ممارسة دوره في ضبط التطور الكبير في سلطة الدولة ونفوذها, مما يشجع أصحاب المصالح والطامحين إلى الاستفادة من هذه الدولة القوية الجديدة , وما يرتبط بالنفوذ إليها من مصالح, إلى السعي نحو السيطرة عليها بجميع الوسائل, وفي مقدمها استخدام العصبيات الدينية والقومية"24
5-  بروز الأصوات المطالبة بالهويات الخاصة العرقية والدينية والمذهبية، التي تكاثرت وتزامنت مع سقوط أيديولوجيات عالمية كانت سائدة ومهيمنة كالشيوعية, ومع سقوط جدار برلين...فتشجعت كل أقلية مهمشة أو قومية منسية على تفعيل هويتها سياسياً ودولياً.
6- شعور أهل بعض القوميات, أو الديانات والطوائف, بوجود تاريخ من الظلم المتراكم على مجتمعاتهم, كما حدث مع المسلمين في دول الاتحاد السوفيتي السابق, ومثلما جرى مع الأكراد والشيعة في عراق صدام حسين...فيعملون لرد الاعتبار لأنفسهم فيصطدمون بغيرهم. تشكلت حالة الظلم هذه من خلال تأريخ من الجراحات المتتابعة عبر الزمن, تعرضوا لها بالتهميش المتعمد والإقصاء الحاد والتعيير في كل مناسبة حتى على طرق أكلهم وملبسهم وتعبدهم. "إن هذه الجراح هي التي تحدد, في كل مرحلة من مراحل الحياة, موقف البشر من انتماءاتهم وتراتبية هذه الانتماءات. فحين يكون المرء قد تعرض للاضطهاد بسبب دينه, أو للإهانة والاستهزاء بسبب لون بشرته, أو لكنته, أو ثيابه الرثة, فهو لا ينسى هذه الإساءات"25
7- غلبة الهوية الأقرب إلى الذات المتمثلة في القبيلة والطائفة والمذهب على الهويات الجامعة كالوطن والدين والقوم. وقد تتحول الهويات الضيقة إلى هويات قاتلة، كما يسميها أ. أمين معلوف في كتابه "الهويات القاتلة"، إذ يقول- بتصرف-: (إن كلمة "هوية" مضللة، فهي توحي في بادئ الأمر بحق مشروع ثم تصبح أداة قتال...ذلك المفهوم الذي يختصر الهوية في انتماء واحد يحصر البشر في موقف متحيز ومتعصب...ما يحولهم إلى قتلة أو أتباع قتلة)، فيندفع أصحاب كل "هوية ضيقة" للدفاع عن هويتهم متغافلين الهويات الأم التي تجمعهم، لذلك لا عجب من غياب المقاصد المرجوة أو انحرافها لدى بعض مؤتمرات التقريب بين المذاهب أو حوارات المذاهب الإسلامية كالذي حدث في الدوحة في 20/1/2007 حيث شهد نقاشات صاخبة من بعض ممثلي المذاهب الإسلامية مما يصنع التباعد لا التقارب.
8- غياب الرؤية السياسية والإستراتيجية للأطراف الداخلية المعنية بالفتنة الطائفية، وبالتالي تستجيب لأفعال الأطراف الأخرى بردات فعل مشوشة بسبب ارتباك أجندتهم العملية التي تترجم تلك الرؤية، إن وجدت. وبذلك تساهم بعض الأطراف الداخلية في إضرام نيران الفتنة الطائفية.
9- استجابة وتناغم بعض الأطراف الداخلية لمتطلبات ولرؤى بعض السياسات والأطراف الإقليمية والدولية، من مصلحتها- الأطراف الخارجية-  استمرار الفتن الطائفية، رغبة في كسب وتعزيز مواقفها في الداخل ضد أطراف تتنافس معها في ساحتها.
10- وجود نظرية صراع الحضارات التي يتبناها المحافظون الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية وسلسلة من المنظمات الغربية، ويعتقد بعضهم بأن العالم يعيش اليوم الحرب العالمية الرابعة - الثالثة تمثلت في مصائب وحروب الحرب الباردة- وأن بؤر التوتر لهذه الحرب بين الغرب والشرق تدور رحاها في البلاد الإسلامية. ناهيك عن التدخلات الإقليمية والدولية التي قد تبث الروح الطائفية في هذه الطائفة أو تلك.
11- استمرار الصراعات الاجتماعية الناتجة عن امتدادات فشل مشاريع النهضة والتحرر السياسي والاقتصادي والثقافي منذ ما يقارب ثمانية عقود حتى وقتنا الحاضر. فـ " في فترة النهوض السياسي القومي بعد الحرب العالمية الثانية والطموح إلى بناء سلطة شعبية ووطنية في الوقت ذاته كان الميل شديداً لدى مختلف الطوائف الدينية وغير الدينية إلى الانصهار. وحدث الأمر ذاته في فترة النهوض الوطني ضد الاستعمار. إذ كان هذا الصراع يخلق نوعاً من الإجماع القومي يدعم الشعور بالانتماء إلى جماعة واحدة ضد الانتماءات الجزئية المتعددة. ولم تعد الطائفية إلى السطح بشكل عنيف إلا مع وصول هذا المشروع إلى الإخفاق وعاد كل إلى قواعده التقليدية قليل الإيمان بالمستقبل وغير واثق به. وقد عمق إخفاق المشروع الوطني الاستقلالي هذا الشعور ففقدت الجماعة أي مثال أعلى جديد واضطرت إلى العودة للتشبث بالمثل الجزئية الماضية التي تتضمن لها وحدها شيئاً من المناعة ضد الانحلال والضياع وشيئاً من القوة والسلطة ضد الدولة التي لم تعد تعبر عنها, أو التي أدركت أنها لا تعبر عنها".26
12- انعكاس لمجموعة من الإخفاقات التي مني بها العالم الثالث في البعد الإصلاحي والتحديثي. واتساع الفجوة بين العالم المتقدم ودول العالم النامي. وغياب مؤشرات النجاح عن ارتفاع مستوى المواطن والأسرة مادياً وتنموياً فينعكس عليهما بالاندفاع للانكفاء على الذات نحو "الهوية الضيقة". وكذلك انعكاس للفشل والإحباط في معالجة القضية الفلسطينية، سواء بخيار الحرب أو بخيار السلام، والعجز العربي والإسلامي عن استثمار مصادر قوته وتحالفاته في تعديل والتأثير في السياسات الأمريكية والأوربية المؤيدة للعدو الإسرائيلي مما يدفع بعض الأطراف نحو البحث عن مكاسب وانجازات تسبح في الوهم أكثر منها في الواقع تعويضاً عن الإحباط والفشل.
13- وجود إعلام يساهم في صب الزيت على نار النزاعات على الهوية. فقد تبدأ الفتن من خبر أو تعليق إعلامي صغير, فيدخل الفضاء الإعلامي في دائرة الاستفزاز والاستفزاز المضاد مما قد يجعل الأجواء متوترة وقابلة للاستغلال من أية أطراف لا تريد الخير بالعالم العربي والإسلامي.
   لذا ليس من المستبعد أن تظهر الفتن الطائفية وتزداد، لا بسبب وجود تلك الأسباب فحسب، بل لأن تكالب الأحداث وتسارعها في الشرق الأوسط، وتدخل المؤثر الإقليمي والدولي في صغائر المعطيات وكبيرها، قد يجعل المستقبل القريب للمنطقة  موعوداً بالأحداث والفتن الطائفية.

   البعد الخارجي في الفتن الطائفية
   " إن مصلحة إسرائيل تقتضي أن تكرس الصراعات وتتعمق، لأن انقسام العالم العربي يعني في نهاية المطاف إضعافه وتشتت قواه وطاقاته التي كان يمكن أن يعبئها ويحشدها في مواجهة إسرائيل". كانت هذه الفقرة مقدمة لمجموعة من الأبحاث للندوة التي نظمها مركز "بارا إيلاف للأبحاث الإستراتيجية" ووزارة الخارجية الإسرائيلية عام 1992، بعنوان:"الموقف الإسرائيلي من الجماعات الإثنية والطائفية في العالم العربي"، وهذه الندوة هي واحدة من الفعاليات البحثية والدراساتية الكثيرة التي تقوم بها الأجهزة الإسرائيلية لزيادة حدة التباينات والتوترات الطائفية العربية، ويضع بعض المراقبين والمتابعين مثل أ. عبد الرؤوف سنو، العدوان الإسرائيلي الأخير على الجنوب اللبناني عام 2006في السياق الإسرائيلي الذي يستهدف- فيما يستهدف-  خلق نزاعات بين النازحين الشيعة ومجتمعهم اللبناني الذي احتضنهم من مسلمين ومسيحيين من جانب أخر.
   لا شك بأن حالة الاستقطاب السياسي الدائمة في لبنان والعراق وفلسطين والسودان داخلياً وخارجياً تساهم في وجود توترات طائفية، ولكن من الطبيعي جداً أن تسعى بعض الأطراف الإقليمية والدولية، تستفيد من إضعاف كل الأطراف الداخلية في تلك الدول، كإسرائيل وأمريكا, نحو إبقاء فتيل التوترات المذهبية والطائفية مشتعلاً. بيد أن لو نظر كل طرف داخلي  إلى مصالح الأمة و أولاها الاهتمام المطلوب بحيث تكون في أول سلم الأهداف لما استطاع الأعداء اختراق جسد الأمة من ثقب الفتن الطائفية. وهو ثقب ذو ممر ضيق، ولكنه يفضي إلى حروب أهلية تجر البلاد والعباد إلى مستقبل مجهول، وإلى جراحات دامية تصيب النفوس قبل الأبدان.
   ليس المقصود تعليق مشاكل الأمة على مشجب "نظرية المؤامرة"، لأن المؤامرات لا تنجح إلا بخلل في الذات، وبقدر ما نحاول التركيز على ما يهمنا وينبغي التأكيد عليه دائماً من الالتفات إلى الذات في ما هي عليه وما ينبغي منها. صحيح أن أمتنا مستهدفة، ولكن الأصح أن لا نتيح للمستهدفين أن ينجحوا في اختراقنا واستثمار مشاكلنا الداخلية، من خلال الفتن الطائفية التي قد نشعل حطبها بأيدينا بقصد أو دون قصد تحت عناوين فئوية أو استحقاقات آنية.
   وتكمن المشكلة في تشاغل وانشغال البعض في إثارة الفتن الطائفية والمذهبية مما يهيأ للمؤامرات الممرات السالكة للعبور وخلط الأوراق الداخلية. هذا التشاغل قد يحدث بين الطوائف كما هو بين السنة والشيعة في العراق ولبنان، وقد يقع بين أبناء الطائفة الواحدة كما هو حاصل بين المسيحيين أنفسهم في لبنان، وبين السنة في العراق، وبين الشيعة في العراق أيضاً. بل قد يساهم أبناء الطائفة الواحدة في إشعال ما كان خامداً من اختلافات اجتهادية بينهم هنا أو هناك. من هنا يُعاب على بعض الطوائف محاولاتها ومساعيها لتكريس امتداداتها الخارجية على حساب بعدها الوطني الخالص. على سبيل المثال, الصورة القديمة التي لا تزال تجد لها زخماً من الاستمرار في الوقت الحاضر, فبعد الاضطرابات التي عمت جبل لبنان عام 1845م " تدخلت الدول الكبرى لحماية الطائفية بشكل مباشر, مثلما حصل للطوائف المسيحية بعد التدخل الأوربي, حيث نشرت فرنسا حمايتها على الموارنة, ودخل الروم الأرثوذكس في عهدة قيصر روسية, وتأرجح الروم الكاثوليك بين الحماية الفرنسية والنمساوية. بينما انضم الدروز إلى لواء التاج البريطاني, فيما بقي المسلمون السنة تحت رعاية السلطان العثماني"27
   من أشد ما ابتليت به أمتنا العربية والإسلامية طوال التاريخ الفتن الطائفية، وقد ساهم في انبعاثها, في أحايين كثيرة, أطراف خارجية. لذا ليس من الأنصاف توقع توقفها، ما دامت، من جهة أولى، محاولات تلاقي مصالح الطوائف تتعثر وتفشل في أغلب الأحايين. وما دامت، من جهة ثانية، محاولات ردم الهوة وإصلاح الذات داخل الأمة بين الطوائف، بصورة واقعية تعطي لكل طائفة تميزها وحقوقها ووزنها في الحياة المشتركة، ينتابها الفشل. وما دامت، من جهة ثالثة، محاولات إنجاح الصعود الطائفي لبعض الأطراف على حساب الطوائف الأخرى تلقى ترحيباً من الداخل أو الخارج!
   يُنقل عن رئيس الحكومة اللبنانية الراحل تقي الدين الصلح انه التقى في الولايات المتحدة مرة بالمفكر الأمريكي كرمت روزفلت الذي كان يعمل مديراً لمعهد الشرق الأوسط في واشنطن، وأخذا يتكلمان معاً في شؤون المشرق العربي.. فكان كلما أتى ذكر دولة من هذه الدول ألحقها روزفلت بمشكلة مستعصية لاصقة بها.. فعند ذكر العراق قال: مسكين العراق عنده المشكلة الكردية، وعنده انقسام الشعب بين سنة وشيعة. وعند ذكر الأردن قال: مسكين الأردن عنده مشكلة البدو، والفلسطينيين، وعند ذكر سوريا قال عندها مشكلة توزع الشعب بين طوائف ولم يكن الفرنسيون في مطلع العشرينيات على خطأ عندما أنشئوا دويلات طائفية ومذهبية فيها كدولة العلويين ودولة جبل الدروز. أما لبنان الذي توقف عنده كرمت روزفلت وقفة خاصة، فقال عنه: المشكلة ان البلد فسيفساء طائفية ومذهبية غير متجانسة، وان الموارنة غير مندمجين مع بقية السكان! وهكذا، أضاف تقي الدين الصلح ضاحكاً، عرفتُ من كرمت روزفلت إن السياسة الغربية في منطقة الشرق الأوسط أشبه بمشتل زراعي يهتم فيه المسؤول بصحة كل مشكلة من مشاكل المنطقة: فهو يحرص على رعايتها ويسقيها بالماء ويمدها بالأسمدة الكيماوية بحيث تكون مشكلة كل قطر أكبر من هذا القطر. 28

   الشخصانية والتشظي يهيأن للطائفية
   الشخصانية إذا تلبست بالأيديولوجيا المذهبية, والتشظي إذا تأسس على أرضية دينية, يمسيا من العوامل المؤثرة في بروز الفتن الطائفية. بالتأكيد تسهم أي حالة تشرذم لأي إقليم أو بلد إلى لجوء الأفراد والمجتمعات للهويات الضيقة (القبيلة, الطائفة, العرق...) وتفضيلها على الهويات الجامعة التي تموت بفعل التشرذم. وقد يظن البعض خطأً بأن التشرذم في العالم العربي والإسلامي سببه الخلافات المستمرة بين الدول, أو بينها وشعوبها. هذا الرأي مع ما فيه من صواب نسبي, إلا أنه إما أن يكون تسطيح للمشكلة, أو هروب من الاعتراف بحقيقتها, بالتالي هو هروب من اتهام الذات الفردية والجمعية, لأن التفكك العربي له أسباب أعمق من ذلك بكثير. ويمكن الإبحار في استيعاب الموضوع عبر زوايا متعددة اجتماعية وسياسية واقتصادية, تضفي بانعكاساتها يومياً على ظاهرة التشظي في العالم العربي والإسلامي. ويمكن أيضاً تناول الأمر بالمقارنة بين ما يحدث في تلك الزوايا عندنا بما يحدث في البلدان الديمقراطية والمتقدمة.
   دائماً ما يكون الوجه البارز من المشكلة منصباً على الحالة السياسية وما يظهر منها على السطح من خلافات وصراعات, فتغيب الوجوه الأخرى للمشكلة. في فلسطين, على سبيل المثال لا الحصر, تبرز قضية الصراع بين حماس وفتح, بينما هناك أوجه أخرى تعكس جوانب من الظاهرة كالتفكك الاجتماعي والأسري وتنامي عصابة الفساد المالي والإداري وخلافات داخلية في حماس نفسها وكذلك في فتح. كل ذلك يسهم في تشكل وتنامي ظاهرة التشظي. الصورة السياسية هي الأوضح للمشكلة, لكنها مجرد نتيجة لعوامل اجتماعية وفئوية وطائفية وقبلية وأسرية وسياسية, وشخصية أيضاً.
   هذه الظاهرة, أو المشكلة, لها مظاهر كثيرة, منها: وجود خلافات مستمرة بين الدول, حدودية, سياسية, قبلية, اقتصادية. مثلما بين مصر والسودان, المغرب والجزائر, الكويت والعراق...ومنها الانشطارات الحزبية المتتابعة. فحزب الأمة في السودان, مثلاً, الذي يتزعمه الصادق المهدي, من المتوقع أن يقع الانشقاق الثاني في صفوفه في المرحلة القادمة, على قاعدة الخلاف حول المشاركة في حكومة البشير أو عدم المشاركة, خصوصا بعد انضمام أحد أنجال الصادق- بشرى الصادق- إلى جهاز الأمن والمخابرات السوداني.
   المتابع لمسيرة الأحزاب والتنظيمات في العالم العربي والإسلامي, خلال العقود الخمسة الأخيرة, بتوجهاتها المختلفة, اليسارية والقومية والإسلامية, يندهش لكثرة التوالد الانشطاري فيها. هذه الحالة شبيهة بكثرة الإنجاب في البلدان العربية والإسلامية, وكأن رغبة التوالد ورغبة الانشطار تتماشيان مع المزاج العام لشخصية أبناء هذه المجتمعات.
   أجلى صورة للانشطار المتنوع والمتتابع بإيقاعات سريعة, نجده في النخب والأحزاب العراقية في هذه المرحلة, لاسيما المبني منها على خلفيات طائفية. اتفاقات رباعية بين الأكراد(الحزب الوطني والحزب الديمقراطي) والشيعة(الدعوة والمجلس). مذكرات تفاهم ثلاثية بين السنة(الحزب الإسلامي) والأكراد(الوطني والديمقراطي). تفاهمات سياسية سنية شيعية تضم 12 كتلة من الطرفين. انشقاقات داخل التيار الواحد, بعضها تحول إلى أكثر من تكتل منفصل عن الحزب الأم, مثلما وقع في حزب الدعوة و المجلس الأعلى ومجالس الصحوة مؤخراً. ناهيك عن الانشقاقات اليومية داخل تنظيم القاعدة في العراق. الوضع نفسه يجري داخل الكتل البرلمانية مثل القائمة العراقية والكتلة الصدرية والائتلاف العراقي.
   لا يمكن فصل هذه الظاهرة عن تفاقم ظواهر أخرى, بل هي لصيقة بها, وربما وليدة لها, كظاهرة التفكك الاجتماعي والأسري, وظاهرة تسلط الذكور على الإناث والأطفال, وظاهرة الديكتاتورة الاجتماعية, وظاهرة الشللية السلبية في الأوساط الثقافية والفنية والرياضية والاقتصادية. وهناك مسألة "الشخصانية", وهي من أهم الأسباب التي ابتليت بها المجتمعات المتخلفة. "الشخصانية- Personalism" مذهب فلسفي وضعه الفيلسوف الفرنسي ايمانويل مونييه حيث يؤكد القيمة المطلقة للشخص, وأن الشخص هو صاحب المركز الأسمى في الكون.29 بيد أن المفهوم يتغير في المجتمعات المتصارعة ليصبح الشخص متقمصاً ذاته, لاسيما إذا كانت لديه طموحات للزعامة وطلب المريدين وتكثير التابعين, ومن ثم انشطاره مع تابعيه عن التشكل الذي كان يضمه والآخرين, والأخطر عندما تتقمص الشخصانية اللباس الديني أو الطائفي والمذهبي.
   بينما في البلدان الديمقراطية كبريطانيا واليابان وأمريكا الصورة مختلفة, قلما تحدث حالات تشظي في الأحزاب القائمة. قد يحدث ذلك بين فترات زمنية طويلة, عشر سنوات أو أكثر, ويحدث كولادة طبيعة لتبدل الأجيال والأحوال والرؤية المتغيرة, وبالتالي يأخذ مسار التغيير الداخلي, لا مسار الانشطار.

   الإعلام كوقود للفتنة الطائفية
   على مدى العقود الخمسة الأخيرة، عملت النقشات المذهبية بين الطوائف المسلمة، كما هو الحال بين الطوائف المسيحية في العقود السابقة، على تخفيف التوترات الطائفية، وفي أضعف صورها حدت من تحول المقاربات المذهبية إلى توترات سياسية، وبالتالي أضعفت المماحكات الاجتماعية وهيأت المجتمعات لتقبل بعضها البعض. وكلما سخنت الساحة سياسياً اقتربت النقاشات المذهبية ونزعت فتيل الحدة والتوتر والتقاذف بين الجماعات والطوائف.
   بيد إن التغييرات الجيوسياسية واتساع مساحة وفضاء الإعلام المرئي خلال العقد الأخير، عربياً وإسلامياً، جعل ما كان بالأمس مستتراً يصبح اليوم ظاهراً، وحول ما كان متوارياً أو يراد له التواري في السنوات السابقة إلى مادة صاخبة ويراد لها في الوقت الحاضر أن تكون صارخة، مما جعل البعض، في الساحات الإلكترونية وبعض وسائل الإعلام، يتندرون على فائدة مساعي التقريب بين المذاهب ومؤتمراتها، اشتباهاً أو تعمداً!
   وقد نشأت خلال السنوات الخمس الماضية مجموعة من الباقات والقنوات الفضائية ذات الصبغة المذهبية عند المسيحيين والمسلمين تعبر عن الفكر المذهبي التابعة له تلك القنوات. فبينما من ايجابيات مراحل هيمنة الإعلام الرسمي وانضباطه خلال العقود السابقة في العالم العربي والإسلامي عدم انجراره أو تحوله إلى أداة تصب في إشعال الفتن الطائفية، تساهم بعض القنوات في هذه المرحلة، مع غياب الرقابة الذاتية التي تضبط الذات عن الانفلات باسم الحرية الإعلامية، في صب الزيت على نار النزعات والنزاعات المذهبية.
   ليس عيباً أن تتأسس وتنشط للطوائف قنوات فضائية ما دامت مسالمة في النهج العام، وتعبر عن ذاتها بصورة حضارية، ولكن الخشية الكبرى والمصيبة العظمى أن تنتهج تلك القنوات رسالة استفزازية للطوائف الأخرى، سواءً كانت بروتستانتية أو كاثوليكية في الإطار المسيحي، وسواءً كانت سنية أو شيعية في الإطار الإسلامي. والخشية الثانية المنبثقة من الخشية الأولى انجرار قنوات أخرى للرد تحت عنوان الدفاع عن النفس، فيدخل الفضاء الإعلامي للمنطقة في دائرة الاستفزاز والاستفزاز المضاد مما قد يجعل الأجواء متوترة وقابلة للاستغلال من أية أطراف لا تريد الخير بالعالم العربي والإسلامي. الجميع يعلم كم هو الإعلام خطير جداً في قلب الحقائق مثلما جعل كثيرين في الولايات المتحدة يصدقون بأن الفلسطينيين يعتدون على الإسرائيليين وهم وجه من وجوه الإرهاب ويحاولن احتلال إسرائيل...إلخ
   فالإعلام الخبري المرئي قد يساهم، إذا تأدلج، ومن خلال مطبخ الأخبار الذي يتفنن في صناعة الخلطات الكيميائية المرئية، وفي صياغة الخبر والكتابة للصورة ومنتجة الأحداث المصورة، قد يساهم في دفع الانقسام المذهبي، السني-الشيعي للأمام وتسييسه، وتحويله من انقسام طبيعي وعضوي وتنافسي إلى انقسام نزاع للتصارع والتحارب، كما يحدث في العراق اليوم، ومن ثم تنساق الأوضاع والمجتمعات إلى بؤرة التوترات والفتن الطائفية التي قد تقود بعض البلدان إلى حروب طائفية دامية تتمنى جميع الطوائف اتقاء شررها وشرها، لأنه لا رابح فيها سوى أعداء الأمة قاطبة.
   والفتن الطائفية قد تبدأ من الإعلام الطائفي الذي يثير الخلافات الطائفية ويكرس التعصب المذهبي أو الديني الذي يستفيد منه الغلاة من الطرفين، بينما حقيقة الصراعات الطائفية لا تخرج عن كونها " صراع البشر على السلطة" كما قال المفكر الانجليزي جون لوك قبل أكثر من ثلاث مئة سنة عندما هاله الشقاق الدموي بين البروتستانت والكاثوليك في أوربا في النصف الثاني من القرن السابع عشر الذي استمر عشرات طويلة من السنين، حيث قال" إن الصراع بين الطوائف المسيحية ينم عن صراع البشر على السلطة، واحتكار المرجعية، أكثر مما يعبر عن كنيسة السيد المسيح".


   من إرهاصات الفتن الطائفية
   للطائفية السلبية إرهاصات ونتائج لا تنحصر بإفرازاتها الآنية, بل تتعداها نحو التأثير على المستقبل القريب والبعيد للمجتمعات والدول. يكفي أنها "إحدى أكبر المعوقات التي تعاني منها المجتمعات العربية, وأنها عقبة كؤود في وجه التحديث والمجتمعات المدنية, فالنظام الطائفي, ولا شك, غير مؤهل لأن يتصالح مع مقومات الدولة المدنية الحديثة, بحكم تركيبه الفكري والاجتماعي"30. أما إذا تحولت الطائفية السلبية إلى نظام محاصصة بعنوان ضمان مشاركة الطوائف في الحكم أو ما أشبه, فهو اشتباه قد تدفع المجتمعات والدول ضريبة كبيرة ثمناً له. فـ " لا يمكن للطائفية ضمان مشاركة جميع الفئات بشكل متوازن في المنظومة السياسية الحاكمة, لأن التوازن المطلوب, لهكذا تمثيل, معرض بشكل دائم للفشل, في حال طغيان طائفة على أخرى, أو قامت أي طائفة باستغلال مركزها في الدولة, أو قدرتها الاقتصادية, أو حتى تمددها الديموغرافي".31
   ومن أخطر إرهاصات الفتن الطائفية قابلية تحولها إلى حروب طائفية وأهلية, بخاصة إذا كانت قائمة على قاعدة الاحتقانات الطائفية التي تنتهج أدلجة الصراعات بين أطرافها, أو على قاعدة الاحتقانات السياسية والأمنية التي تبتغي المحافظة على وجود فرقاها وتعزيز مواقع أطرافها. وأخطر ما في الأمر أن مدى صعوبة عودة الاستقرار, لو وقعت الحروب الطائفية واتسع أمدها, تكاد أن تكون شبه مستحيلة.
   فقد كادت العبثية الطائفية أن تعيث فساداً في لبنان خلال السنوات الماضية لولا محاولات مخلصة داخلية وخارجية حالت دون ذلك. ولكن لا تزال خشية الجميع على لبنان من حرب أهلية لا تُبقي و لا تذر. والأوضاع في العراق لا تزال تعتمل إرهاصات المأساة في دائرة الخطر والتمزق وأصبحت الخشية على العراق وأهله من الانتقال إلى مرحلة الهلاك العام. والخشية نفسها على فلسطين أيضاً.
   ويمكن عنونة بعض الأخطار المرافقة لأي حرب أهلية أو طائفية على أي منطقة فيما يلي :-
1/ أن تكون الحرب مقدمة إلى انقسامات داخلية اجتماعية وسياسية تهدد بتغيير ملامح الاجتماع السياسي القائم وجغرافيته, بحيث لا يمكن توقف الاحتراب الداخلي إلا بمقابل ثمن باهظ ينتج عنه محاولة توافق الأطراف الداخلية على أسس المُحاصصة بينهم, سواء كانت نسب المُحاصصة وهمية أو واقعية, ولكن يقبلها الجميع لأنها بمثابة الشر الذي لا بد منه كمخرج للجميع من عنق الزجاجة.
2/ لأن العصبية تكون حاكمة على نفوس وعواطف المتحاربين أهلياً أو طائفياً, لذا تكون الحرب غارقة في الشراسة والدموية فتمسي خسائرها البشرية والمادية دائماً متجاوزة للتوقعات والتقديرات التي يطلقها المتابعون أو المعنيون. وهذا ما يجعل بقاء أثارها في النفوس كبيراً وطويلاً لأنها تحدث بين أبناء البلد الواحد والمجتمع الواحد, وقد يكون العداء بينهم وهمي لا حقيقي.
3/ لا تتوقف أثار الحرب الطائفية أو الأهلية عند حدود البلد والمجتمع الذي تدور رحاها داخله, بل تمتد وتتسع لتشمل المنطقة المحيطة به ما دامت التداخلات الاجتماعية والتاريخية ناشطة وطبيعية بين بلد الاحتراب ومحيطه الجغرافي. وهنا تكمن خطورة أخرى وهي محاولة الأطراف الخارجية استثمار الفتن الداخلية والاحتراب الداخلي بما يخدم مصالحهم.
4/ الحروب الطائفية والأهلية تعني عودة الوطن - أي وطن - والمجتمع إلى الوراء عشرات السنين في سلم الدول النامية وتوقف الإصلاحات وتراجع التنمية, بل تعيد الشعوب إلى بذور التخلف الفكري والثقافي, فتسود العصبيات الاثنية والطائفية والقومية لتكرس سمات التشرذم والفرقة فلا يصبح للإنسان قيمة باستباحة دمه. وتصبح الحروب الأهلية والطائفية هي المدخل لخارطة الطريق للتخلف.

• المصادر
1/ الموسوعة العربية العالمية: ج15ص476.
2/ قصة الإعراب, أحمد الخوص:ج2 ص319.
3/ مفهوم الطائفية: يوسف الديني: ضمن كتاب (الطائفية): مجموعة من الكتاب: مركز المسبار للدراسات والبحوث، الامارات العربية المتحدة، الكتاب الرابع، ص12.
4/ المصدر السابق، ص14.
5/ حول خارطة الأقليات في العالم العربي, هاني نسيره, ضمن كتاب "الطائفية", مجموعة من الكتاب, مركز المسبار للدراسات والبحوث4/2007, ص 135.
6/ المصدر السابق: ص 136.
7/ المصدر السابق.
8/ المصدر السابق.
9/ د. رشيد الخيون ص25.
10/ مصدر سابق رقم 5.
11/ المصدر السابق.
12/ المصدر السابق.
13/ المصدر السابق.
14/ المصدر السابق.
15/ المصدر السابق.
16/ الطائفية في الخليج، ضمن كتاب (الطائفية): ص 102، بتصرف.
17/ مصدر سابق رقم 5.
18/ مصدر رقم 16: ص104.
19/ مصدر سابق رقم 5: ص 145بتصرف.
20/ مصدر رقم 16: ص 105 بتصرف.
21/ مصدر رقم 5: ص 146.
22/ المصدر السابق: ص 143بتصرف.
23/ المصدر السابق.
24/ نظام الطائفية من الدولة إلى القبيلة, د. برهان غليون, ط 1, 1995, بيروت, المركز الثقافي العربي.
25/ الهويات القاتلة, أمين معلوف ص 41.
26/ المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات, د. برهان غليون ص 76-77.
27/ مفهوم الطائفية بين التجاذب الديني والسياسي, يوسف الديني, ضمن كتاب "الطائفية", مجموعة من الكتاب, مركز المسبار للدراسات والبحوث4/2007, الكتاب الرابع ص 16.
28/ الإسلام لا المذهبية!، جهاد فاضل، موقع العربية نت، باب أراء، الثلاثاء 15 ربيع الأول 1428هـ - 03 أبريل2007م ، نقلا عن جريدة "الرياض" السعودية.
29/ معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية: ص311.
30/ مفهوم الطائفية: يوسف الديني: ضمن كتاب (الطائفية): مجموعة من الكتاب: مركز المسبار للدراسات والبحوث، الامارات العربية المتحدة، الكتاب الرابع، ص18.
31/ المصدر السابق.
كاتب وباحث