النصوص المتعالية
"والله إني لأرى رؤوسا قد أينعت وقد حان قطافها وإني لصاحبها، وإني لأرى الدماء ترقرق بين العمائم واللحى ، والله يا أهل العراق إن أمير المؤمنين نثر كنانته بين يديه، فعجم عيدانها فوجدني أمرَّها عودا وأصلبها مكسرا فرماكم بي ، لأنكم طالما آثرتم الفتنة، واضطجعتم في مراقد الضلال ، والله لأنكِّلنَّ بكم في البلاد، ولأجعلنّكم مثلا في كل واد ، ولأضربنَّكم ضرب غرائب الإبل".
في أحد المواقع الأدبية يختار أحدهم مبتهجا من ( كتاب المستطرف في كل فن مستظرف ) هذا النص المشهور للحجاج بن يوسف الثقفي والمذكور في باب الفصاحة ليشارك به القراء، ثم تتوالى التعليقات المعجبة أشد الإعجاب بهذا النص ( الرائع ) والاختيار الأروع!!.
والنص معروف ومشهور لكل فرد في أمتنا العربية، حيث لا تخلو كتب الأدب المدرسية منه، نتعلمه باعتباره نصا تراثيا جميلا ينبغي أن نعجنه مع جيناتنا الوراثية حتى لا يتعرض أحد الأجيال القادمة للخلو منه لا سمح الله!!
أما في أمريكا فإنهم يعلمون أولادهم أن خطاب القس الأسود مارتن لوثر كينج " لدي حلم " الذي طالب فيه بالمساواة القانونية والحقوق المدنية هو الخطاب الأروع في تاريخ أمريكا.
ومن يقرأ الخطابين سيكتشف بلا شك لماذا نحن حيث نحن ولماذا هم حيث هم؛ إنه الفرق بين خطاب يمجد السيف والدم وقطع الرقاب كوسائل لإدارة البلاد والعباد، وآخر يدعو لنبذ العنف وتحقيق العدالة بين المواطنين باعتبارها حقا مشروعا ووسيلة أنجع لاستقرار ونمو وازدهار الولايات المتحدة.
من يقرأ الخطابين سيكتشف سرا من أسرار تخلفنا وهو تمجيدنا للقوة كحل وحيد لحل مشاكلنا الداخلية والبينية، بينما نصر بقوة أيضا على المفاوضات كخيار وحيد مع عدونا الذي يحتل أرض فلسطين منذ أكثر من ستين عاما.
النصوص ليست بريئة أبدا؛ فكل نص – مقروء أو مسموع أو مشاهد – يترك أثرا ما في بنيتنا الفكرية، شئنا أم أبينا. ومن هنا كان لزاما على المسؤولين عن التعليم في بلادنا العربية اختيار النصوص التي تصنع الإنسان المفكر القادر على التفاعل مع معطيات العصر والذي يملك حسا نقديا محكما، ويستطيع أن يساهم في بناء مجتمعه بكل وعي ومسؤولية. وتراثنا العربي الذي أنتج خطاب الحجاج الذي تفوح منه رائحة الدم، أنتج في المقابل خطابا راقيا يمكن استعادته يعلي من شأن الإنسان وحريته وحقوقه. لماذا لا نعلم أبناءنا " كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا "، أليست هذه من التراث أيضا؟
إن واحدة من المشاكل المتعلقة بتراثنا هي إقصاء جزء هام منه من الساحة العلمية والأدبية والثقافية والمدرسية، وذلك بسبب حالة الاستقطاب الطائفي والمذهبي التي يعاني منها عالمنا الإسلامي؛ والتي تسببت في حرمان الأمة من الاطلاع على تراث أهل البيت عليهم السلام، وهو تراث إنساني إسلامي، مستوحى من كتاب الله وسنة رسوله ، ويغطي مساحات شاسعة من عالم المعارف الإنسانية والإسلامية، ويمكنه أن يفيد البشرية جمعاء في مسيرتها وأن يقدم إجابات شافية على أسئلتها الشائكة.
فعلى الرغم من حديث الثقلين الذي أخرجه مسلم في صحيحه بإسناده عن زيد بن أرقم قال :
﴿ قام رسول الله يوماً فينا خطيباً بماءٍ يدعى خماً بين مكّة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكّر ثم قال : أما بعد ألا يا أيّها الناس فإنما أنا بشر يوشك أنْ يأتي رسول ربي فاُجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين ، أوّلهما كتاب الله فيه الهُدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به . فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ثم قال : وأهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ...﴾
على الرغم من هذا الحديث الصحيح، فإن تراث أهل البيت لا يزال مغيبا عن ساحات الفكر العربية والإسلامية.
وحتى لا أساهم في هذا التغييب سأختار نصوصا لأحد أئمة أهل البيت، وهو الإمام محمد بن علي بن الحسين الملقب بالباقر ( 57-114 هـ )، والذي قال عنه محمد بن طلحة الشافعي: هو باقر العلم وجامعه، وشاهر علمه ورافعه، ومنمق دره وواضعه.
النص الأول يعيد صياغة تفكيرنا حيال الآخر وتصرفات الآخرين تجاهنا، وكيف ننظر لها النظرة العميقة التي تنطلق من المبادئ، بحيث تكون ردود أفعالنا محكومة برؤية ثاقبة، وليس بانفعالات آنية يغلب عليها التوتر وعدم الحكمة. يقول النص / الوصية:
أوصيك بخمس: إن ظلمت فلا تظلم، وإن خانوك فلا تخن، وإن كذبت فلا تغضب. وإن مدحت فلا تفرح ،وإن ذممت فلا تجزع ،وفكر فيما قيل فيك ،فإن عرفت في نفسك ما قيل فيك ،فسقوطك من عين الله جل وعز عند غضبك من الحق أعظم عليك مصيبة مما خفت من سقوطك من أعين الناس ،وإن كنت على خلاف ما قيل فيك ،فثواب اكتسبته من غير أن يتعب بدنك .
النص الثاني، هو مجموعة نصوص، تحث على العمل واكتساب الرزق الحلال وتعلي من شأنه، وتحدد أسباب طلبه، كما تحض على ضرورة تنمية رأس المال، وما أحوج شبابنا لمثل هذا النص:
" من طلب الرزق في الدنيا استعفافا عن الناس، وتوسيعا على أهله، وتعطفا على جاره؛ لقي الله عز وجل يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر"
" العبادة سبعون جزءا أفضلها طلب الحلال"
" من المروءة استصلاح المال"
النص الثالث: سؤال عميق وجواب أعمق:
سئل عليه السلام: من أعظم الناس قدرا؟
فأجاب: من لا يرى الدنيا لنفسه قدرا.
النص الرابع: يتحدث عن الحدود العليا لبعض الأمور المعنوية التي يصعب تلمس حدودها إلا عند أهل البصيرة النافذة:
واعلم أنه لا علم كطلب السلامة، ولا عقل كمخالفة الهوى، ولا فقر كفقر القلب، ولا غنى كغنى النفس، ولا معرفة كمعرفتك بنفسك، ولا نعمة كالعافية ولا عافية كمساعدة التوفيق، ولا شرف كبعد الهمة، ولا زهد كقصر الأمل، ولا عدل كالإنصاف، ولا جور كموافقة الهوى، ولا طاعة كأداء الفرائض، ولا مصيبة كعدم العقل، ولا معصية كاستهانتك بالذنب، ورضاك بالحالة التي أنت عليها، ولا فضيلة كالجهاد، ولا جهاد كمجاهدة الهوى، ولا قوة كرد الغضب، ولا ذل كذل الطمع، وإياك والتفريط عند إمكان الفرصة، فإنه ميدان يجري لأهله بالخسران.
كل مفردة هنا تحتاج إلى وقفة من قارئنا العزيز الذي نأمل منه أن لا يمر عليها مرور الكرام.