اتكالية اليوم... فشل الغد

تُشير دراسة ميدانية حديثه بعنوان ”مستوى الاتكالية الاجتماعية في الأعمال الموجهة لدى طلبة علوم التربية“ إلى أن أكثر من 60 % من الطلبة الجامعيين خصوصا في التخصصات التربوية يُظهرون ميولاً واضحة نحو الاتكالية في أدائهم. ويفضلون التوجيه المباشر على اتخاذ القرار الذاتي أو المبادرة الفردية.

وبرغم تركيز الدراسة على البيئة التعليمية إلا أنها في الحقيقة تكشف نمطاً ذهنياً يتسلل إلى مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والمهنية ويُلقي بظلاله على مستقبل الأفراد والمؤسسات.

الاتكالية من سلوك فردي إلى ظاهرة مجتمعية

لم يعُد مشهد الاتكالية في تصوري مقتصراً على طالبٍ جامعي في بداية طريقه المهني أو موظف محدود الصلاحية ينتظر التوجيه في كل صغيرة وكبيره، أو فردٍ يواجه ظروفاً استثنائية تمنعه من اتخاذ قراراته بنفسه، بل أصبح سلوكاً شائعاً يمتد إلى ربّ الأسرة، والعامل في المؤسسة، والمسؤول في المجتمع المدني، بل وحتى إلى بعض الهياكل الإدارية التي تنتظر التوجيه من الخارج بدلاً من المبادرة الذاتية.

وهكذا تحولت الاتكالية من سلوك فردي إلى ظاهرة مجتمعية تُضعف الحافز الذاتي، وتُرسخ روح الانتظار بدلا من المبادرة، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: 

ماذا نعني بالاتكالية، ولماذا يُعاني البعض من ضعف روح المبادرة والاعتماد المفرط على الأخرين في اتخاذ القرارات الشخصية والمهنية والمجتمعية، وكيف يمكن تعزيز الاعتماد على الذات في مواجهة العقبات؟

تعريف الاتكالية:

يُعرّف بعض الباحثين الاتكالية بأنها سلوك نفسي: أي التصرفات أو ردود الأفعال التي يقوم بها الإنسان وتكون ناتجة عن دوافع أو مشاعر داخلية مثل الخوف أو القلق أو الطمأنينة، وغالبا ما تكون من دون وعيّ كامل وتتأثر بالحالة النفسية والعقلية للفرد، كشخص يتجنب المبادرة أو المشاركة في عمل ما رغم قناعته بضرورة التغيير ومعرفته الكاملة به.

وسلوك اجتماعي: أي الأفعال أو التصرفات التي يقوم بها الفرد أثناء تفاعله مع الآخرين داخل المجتمع والتي تتأثر بالعادات والتقاليد والثقافة العامة والضغوط الاجتماعية كشخص يذهب لمناسبة ما فقط لأنه يخشى كلام الناس أو يريد مجاراة العرف.

الاتكالية والكسل: سلوك متشابه

ولأن الاتكالية هي لبّ الحديث في هذا المقال، فإن من المهم أن نُفرّق بينها وبين الكسل حتى لا نُجانب الصواب في تشخيص العلة ولا نُخطئ في تقديم الحل

الاتكالي لا يفتقر بالضرورة إلى النشاط أو الحضور لكنه يفتقر إلى المبادرة واتخاذ القرار ويظل في موقع الانتظار مترقباً من يُمهد له الطريق أو يُملي عليه الخيارات، بينما الكسول فهو غالبا ما ينسحب من البداية ويتجنب بذل أي جهد، بل ويغيب تماماً عن الفعل والمساهمة فقد نجد مثلاً في المناسبات الاجتماعية من يتحرك ويبدو منشغلاً، لكنه لا يُبادر لتنظيم الطابور أو تقديم المقترحات ويبقى في دائرة الانتظار، متوهماً أن على غيرة أن يتحمّل المسؤولية بدلاً عنه، وفي المقابل هناك من لا يحضر أصلا، أو يتهرب من أي التزام بدعوى الانشغال أو ضيق الوقت أو... الخ، وهذا هو الكسل في صورته الصريحة، وكما قال عنه الأمام الكاظم " إياك والضجر والكسل، فإنهما يمنعان حظك من الدنيا والآخرة.

حين يغيب القرار تتكوّن الطوابير

في المقال السابق ”طوابير المناسبات.. أزمة إدارة أم سلوك“ يبدو للوهلة الأولى أن السبب هو غياب الجهة المنظمة أو ضعف التنسيق حيث «لا يوجد من ينظم الصفوف، ولا توجد لافتات توجيهية، ولا توجد حلول بديلة، ولا... ولا...» لكن بالتأمل أكثر نجد أن الناس أنفسهم ينتظرون من يبادر بالتغيير لإنهم يخشون مخالفة ”السائد“ أو الخروج على المألوف، حتى لو كان مرهقاً أو مُجحفا، ولذلك ورد عن الامام علي أنه قال ”العادات ُ قاهرات“ و”للعادة على كل إنسان سُلطان“ وإنّ مخالفة الإنسان لأمر ألفه وتعوّد عليه ليس بالأمر السهل، بل يحتاج إلى التحلي بالعزم والإرادة والوعي

وهنا يتحول الخطأ من خلل تنظيمي إلى خلل في نمط التفكير والسلوك، ففي إحدى المناسبات على سبيل المثال بادر أحد المنظمين بوضع لافتات واضحة، وتوفير ممرات ميسّرة لتسهيل دخول المُهنئين إلا أن الحضور تجاهلوا التوجيهات، وفضلوا التزاحم والتفرد، كما اعتادوا دائماً بحجة أن هذا هو المتعارف عليه، وهو إشارة واضحة على أن المشكلة أعمق من مجرد نقص في التنظيم أو ضعف في الإدارة أو الإمكانيات، بل هي نتيجة نمط سلوكي جماعي قائم على الاتكالية والخضوع للعادات.

لا إصلاح بلا تحوّل سلوكي

كثيراً ما تساءلت: لماذا يُعاني البعض من ضعف روح المبادرة؟ ولماذا يصعب على الكثيرين خوض التحديات، رغم توفر الإمكانات والدعوات المتكررة إلى التغيير؟

وتأملتُ أكثر في مشهد الطوابير التي تتكرر في مناسباتنا رغم كل المحاولات التي طُرحت والنوايا الإصلاحية التي لا نشك فيها، ثم أدركت أن المشكلة أعمق من مسألة التنظيم، وأبعد من الإجراءات الشكلية

إنها مشكلة في نمط التفكير الراسخ، وفي الذهنية التي ترى التغيير مهمة الآخرين، ولذلك فإن أي تغييرلا يخترق طريقة التفكير، ولا يُوقظ السلوك سيظل هشّاً قابلاً للانهيار مع أول عائق يصطدم به، لأن العقول ما زالت أسيرة المألوف، والنفوس لم تتأهل بعد لتقبّل التحول، ولعل أبرز ما يُعطل هذا التحول هو الانتشار الواسع لظاهرة الاتكالية

الاتكالية وتكلفة الفرص الضائعة

حين يُربّى الطفل على الاعتماد الكلي على والديه، وحين يُمنع من اتخاذ القرارات الصغيرة بحجة أنه ”لا يزال صغيراً“ أو يُمنع من الخطأ والتجربة بدعوى ”الخوف عليه“ أو يُسلب منه حقه لأن ”الكبار أدرى“ يتكوّن لديه شعور ضمني أن الآخرين مسؤولون عن مصيره، أو قناعة باطنية مفادها أن مصيره بيد غيره، فيكبر هذا الإحساس شيئا فشيئاً ليتحول إلى فلسفة حياة، حيث يتجنب المواجهة ويفضّل الانتظار ويبحث دائما عمن يمّهد له الطريق.

وهكذا تُهدر فرص ثمينة كان بالإمكان أن تُثمر مهارات أو تُنتج تجارب لتصبح الاتكالية سببا مباشرا في ضياع الشخصية المستقلة، وتتراكم الخسائر على المستوى الفردي فتنعكس على المؤسسات والمجتمع بأسره

من ينتظر غيره.. لن يتقدم

يعتقد الكثير من الناس ان التغيير ليس من مسؤوليتهم ويُحمّلون الغير أو المحيط الاجتماعي أو حتى الظروف الزمنية والقيادات الاجتماعية كل تبعات الواقع المتردي، بينما ينسون أن الشرارة الأولى تبدأ منهم، وأن التحول الحقيقي لا ينتظر مبادرة من سواهم بل يحتاج إلى وعي واستعداد وتحمّل للمسؤولية

فالمجتمعات لا تتغير دفعة واحدة، بل تتغير حين يقرر الافراد كلُ في مجاله أن يكونوا جزءا من الحل، لا امتدادا للمشكلة، وكما قال المهاتما غاندي ”كن أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم“ أو كما قال الأمام على ”من اتكل على زاد غيره طال جوعه“

إن الانتظار لا يصنع مستقبلاً، والمماطلة لا تُنتج نهضة، والمبادرات المؤجلة هي التي تُراكم الفشل، ومن يتحرك ويتعلم ويبادر ويخوض التجربة هو من يصنع الفرق ويُغير المعادلة

الخاتمة: لا تنتظر... كُن أنت البداية

إن ما نشهده من طوابير طويلة في مناسباتنا الاجتماعية ليس مجرد خللاً تنظيميا فحسب بل هو انعكاس صريح لحالة ذهنية جماعية تُفضّل التلقّي على الفعل، والانتظار على المبادرة والاعتماد على الآخرين بدلاً من تحمّل المسؤولية.

وهنا تأتي رسالتي إليك من وجهة نظري كحل لمشكلة ”طوابير المناسبات“ وهي ”لا تنتظر أن يتغير الواقع وحده.. بل كُن أنت بداية التغيير“

أبدأ من نفسك، اقترح حلولا، أرفع صوتك بالفكرة التي تُريح الناس وتحترم وقتهم وكرامتهم ضع لافته، نظّم الصف، شارك باقتراحاتك وآرائك للمجتمع، وكوّن فريقا تطوعيّاً في الحي أو العائلة أو العشيرة لتنظيم المناسبة القادمة فإن أصغر مبادرة صادقة قادرة على أن تُحدث الفرق.

وتذكّر دائماً:

أن اتكالية اليوم فشل الغد، وأن من ينتظر غيره، لن يتقدّم، وأن من يُبادر اليوم... يُمهّد درب النجاح للغد، فاختر أن تكون أنت بداية الطريق لا امتداد للانتظار.

17:06: 2025م يوم الثلاثاء