نورٌ تأخّر كثيرًا... لكنه لم ينطفئ

عادت سلمى من المدرسة بخطى صغيرة مثقلة بالحزن، ووجهها الطفولي يشبه لوحة مبتلّة بالدموع. كانت عيناها تبحثان عن دفء... عن أمان... عن من يصغي لقلبها الصغير المتعب.

ارتمت في حضن والدتها قائلة بصوتٍ متهدّج:

- أمي... قلتُ لكِ من قبل، لا أرى السبورة بوضوح. اليوم طلبت مني المعلمة أن تحضري غدًا.

تنهدت الأم وهي تمسح الغبار عن الطاولة بكسل، وكأن الحياة أثقلتها فلم تعد ترى أبعد من طبق الغداء:

- ولماذا أحضر؟ أنا مشغولة... ثم هل تجلسين في نهاية الفصل؟

أجابت سلمى، وهي تمسح دمعة سقطت دون إذن:

- لا، أنا في المقدمة... لكن الرؤية تخونني.

لم تُعِر الأم الأمر كثير اهتمام، لكنها رضخت أخيرًا، فقط لإسكات الإلحاح.

وفي صباح اليوم التالي، وقفتا أمام المعلمة التي تحدثت بلطف الأم المكلومة بحال تلميذتها:

- سلمى ذكية جدًا، لكنها تجهد كثيرًا لتقرأ ما على السبورة. أرجو أن تصطحبيها إلى طبيب العيون، الأمر لا يحتمل التأجيل.

صمتت الأم، وابتلع جدار صمتها كل قلق المعلمة.

ومضت الأيام ثقيلة، حتى أعادت سلمى السؤال:

- متى نذهب يا أمي؟ المعلمة لا تزال تنتظر جوابك.

قالت الأم بلا اكتراث:

- غدًا، سنذهب.

وفي المستشفى، قال الطبيب بعد فحص طويل كأنّه ينقّب عن نورٍ ضائع:

- ابنتكِ بحاجة ماسّة إلى نظارة. نظرها في انحدار، وإن لم تُعالج فورًا، قد نضطر للتدخل الجراحي مستقبلاً.

هزّت الأم رأسها، وكأنها لم تسمع شيئًا.

وبعد يومين، سألت سلمى بخجل:

- متى ستشترين لي النظارة؟

قالت الأم وهي تسرّح شعرها أمام المرآة:

- النظارات لا تناسب الأطفال... وأنتِ جميلة هكذا، لا تُشغلي بالك.

ابتلعت سلمى خيبتها في صمت، وابتلع معها الزمن نورًا كان يمكن أن يُنقَذ.

سنوات مرّت، وخبا الضوء شيئًا فشيئًا من عينيها، حتى صارت لا ترى إلا ما تُمسكه يد والدتها... وذات صباح، رحلت الأم، وتركَت سلمى في ظلمةٍ مضاعفة: ظلمة البصر، وظلمة الوحدة.

جلست أمام مرآةٍ لا تعكس شيئًا، وداخلها يتساءل:

- هل هذا قدري؟ أن أعيش في الظلام الذي كان يمكن أن أتجنّبه؟

لكن شيئًا ما كان لا يزال ينبض فيها... ربما كان بصيصًا صغيرًا من الأمل، ربما كان نورًا لم يُطفأ بعد.

جمعت شتات شجاعتها، وذهبت بنفسها إلى طبيب العيون.

نظر إليها طويلاً، ثم قال:

- لقد تأخرتِ كثيرًا يا سلمى... النظارة لن تعيد إليكِ ما فُقِد، والعملية قد تمنحك فقط 30% من بصرك.

خرجت من العيادة تمشي بين الناس كمن يعبر بين ظلال، لا يرى، لكنه يشعر.

لم تبكِ، لم تلعن الأم، لم تندب حظّها.

رفعت رأسها إلى السماء، كأنها تناجي الله قائلة:

- ربما تأخّر النور عن عينيّ... لكنه لم ينطفئ في قلبي.

ومن هناك... بدأت الحكاية.

تعلمت طريقة برايل، وحفظت القرآن بنسخته الخاصة، لا بعينيها، بل بروحها.

كتبت خواطر مؤثرة، كانت كلماتها بمثابة شموع تُضيء طرق الآخرين.

انضمت لجمعية للمكفوفين، وتطوّعت لمساعدة الأطفال فاقدي البصر.

وفي إحدى الندوات، وقفت على المسرح، والميكروفون بيدها، والقلوب تصغي:

"ربما تأخّر النور عن عينيّ... لكنه لم ينطفئ في قلبي.

فالحياة لا تُقاس بما نفقد، بل بما نُشعل من أمل وسط العتمة.

قد تُغلق الأبواب، لكن العزيمة تفتح نوافذ جديدة نحو الضوء. "

صفّق الجمهور طويلًا، ولم يكن تصفيقًا لسلمى فحسب، بل للإنسان حين ينهض من عثرته، ويقول بثقة: ”ما زال في قلبي نور، ولن أسمح له أن ينطفئ.“

أخصائي التغذية العلاجية