الفضائيات ومستقبل الإعلام الحر

لعبت القنوات الإخبارية المستقلة دوراً كبيراً في صناعة التأثير لدى المشاهد العربي مرتكزة على اقتناص الأخبار الحصرية وكل ما لم تسلط عليه الأضواء في مناطق الصراعات والأزمات السياسية، بعد أن أصبح الإعلام الرسمي مجرد أداة بيد الحكومات العربية لا ينفك عن إظهارها على أنها القمة في الديمقراطية والحرية والاستقرار.

لذا حاول الإعلام الرسمي العربي توظيف قنوات أخرى لصالح سياساته تبث بلسان آخر وكأنها قنوات حرة هي في الواقع طوع تصرفه، مستخدماً في ذلك عنصر الإثارة والإغراء في جذب المشاهد إليها وانتقاء سياسة محددة من الأخبار والثقافة لإشباع عقلية المشاهد/المواطن بها.

ومع هذا التواجد الإعلامي المسيس كان لابد من وجود قنوات أخرى مغايرة في أطروحاتها لما هو سائد من غض الطرف عن أخبار الدول الممولة لقنوات نُصبت لتلميع صورتها دولياً والتدخل في شؤون دول أخرى، فجاءت قناة العالم الفضائية في إطار مجاراة القنوات الإخبارية الأخرى كنوع من التوازن الإعلامي بمعايير إعلامية وسياسية في آن واحد، حيث وقفت في وجه الآلة الإعلامية التي تتخذ من الأحداث الداخلية في إيران والتدخل في شؤونها السياسية مادة متكررة في نشراتها الإخبارية وبرامجها السياسية والتحليلية خدمة لخلق توترات وأزمات مستمرة في المنطقة.

 فعملت «قناة العالم» بالضرب على ذات الوتر مع تلك الدول بالتركيز على الانتهاكات الإنسانية والحريات بكافة صورها في الداخل كنوع من التحذير الإعلامي لنشر المزيد من الحالات المغيبة عن الإعلام ما لم تتوقف بالكف عن تشويه صورة إيران المالكة للقناة، الأمر الذي أثار حفيظة بعض الدول التي أصبحت أوضاعها المتردية مادة خبرية وتحليلية متكررة. فما كان منها إلا التحرك وقطع البث على قمري مؤسستي النايلسات والعربسات لخدمات البث الفضائي خشية إحراجها أمام الرأي العام الدولي.

إن من المعيب على الدول العربية تحجيم الحريات الإعلامية وتشكيلها بما يتلاءم مع رغباتها لإعطاء العالم لوناً واحداً من الأخبار التي لا تظهر سوى ما تريده سياسة هذه الدولة أو تلك. فمن المضحك المبكي أن يجتمع وزراء خمس دول عربية لتداول موضوع قطع بث القناة - وفقاً لصحيفة القدس العربي- لتأتي رسالة توضيحية بعد إيقاف الشارة من إدارة العربسات تفيد أن السبب إساءة القناة إلى التقاليد وانتقادها بعض المسئولين العرب وقيامها ببث «برامج وأخبار تتعارض مع الأخلاقيات الدينية والسياسية» وتكتفي النايلسات بالقول بأن «جهات عليا» تقف خلف قطع إرسال القناة.

فإذا كانت الدول العربية لا تعاني من عقد ومشاكل بينها وبين شعوبها من جهة وبين دول العالم من جهة أخرى، فلم الانزعاج من أخبار لا تمت للواقع بصلة كما تتوهم؟ ثم إذا كانت الأخبار تتعارض مع الأخلاقيات الدينية والسياسية، فما بال قنوات تسيء للإسلام و الرسالة السمحاء بقيامها بعرض الميوعة والانحلال الخلقي ليل نهار، وتسيء للمذاهب وتحرض ضد الآخرين وتدعو لقتلهم لا تزال تسبح في الفضاء؟ هل ما تبثه هذه القنوات هو عين التقاليد والأعراف والقيم الدينية؟!

لقد كان قرار إيقاف بث قناة العالم وما سيكون من إيقاف لأي قناة مستقبلاً قراراً متعجلاً ويصب في صالح القناة والترويج لها، حيث يجيد الناس تطبيق المثل «كل ممنوع مرغوب» خاصة إذا كان الممنوع متاح الحصول عليه بوسائل وطرق أخرى كالتقاطه على أقمار صناعية أكثر استقلالية أو من خلال البث المباشر على شبكة الإنترنت أو حتى ملخصات الأخبار المكتوبة عبر مواقع وإن كانت محجوبة.

لقد نصت الوثيقة الإعلامية العربية التي اتفق عليها وزراء إعلام دول جامعة الدول العربية في فبراير من عام 2008 في بندها الأول على أن الهدف منها «تنظيم البث وإعادته واستقباله في المنطقة العربية وكفالة احترام الحق في التعبير عن الرأي وانتشار الثقافة وتفعيل الحوار الثقافي من خلال البث الفضائي» ولكنها في بندها الخامس في الفقرة الأولى منه قيدت الحرية الإعلامية «بحماية المصالح العليا للدول العربية وللوطن العربي واحترام حريات الآخرين وحقوقهم» وإتاحة الفرصة لكل دولة في جامعة الدول العربية «في فرض ما تراه من قوانين ولوائح أكثر تفصيلاً» كما جاء في الفقرة الثانية من نفس البند.

وهذا ما يناقض ما جاء في البند الأول ويفرض الوصايا على الجهات الإعلامية التي تبث من أراضي الدول العربية، فكل ما لا يروق لأي سلطة تستضيف على أراضيه محطة فضائية من مواد إعلامية تسلط الضوء على سياستها وأخبارها المحلية سيصنف أنه من ضمن المواد التي تضر بالدولة وأمنها وسيادتها، وبالتالي محاصرة الصوت والصورة وحجب الحقائق عن المشاهدين.

فهل ستصبح القنوات الفضائية المستقلة يوماً أدوات تابعة لرغبات الحكومات العربية وتلميع صورتها؟